البحر الأسود ساحة مواجهة
شهد البحر الأسود، أخيراً، نشاطاً عسكرياً محموماً، مناوراتٍ روسية وأخرى أطلسية. بدأت الأولى في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بالقرب من شبه جزيرة القرم، بإجراء تدريباتٍ بالذخيرة الحية لـ "تدمير أهداف معادية". وبدأت الثانية في الخامس منه وتستمر أسبوعين، شاركت فيها قوات كبيرة قوامها نحو خمسة آلاف جندي ونحو 18 فريقاً من فرق القوات الخاصة للدول المشاركة وحوالى 30 سفينة و40 طائرة، من 28 دولة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأربع دول عربية؛ مصر والإمارات وتونس والمغرب، بالإضافة إلى باكستان والسنغال والبرازيل وأستراليا، بصفة مشارك أو مراقب، أجرت تدريباتٍ على حربٍ برمائيةٍ واعتراضٍ بحري وحرب ضد الغواصات، وعمليات الغطس. وقد اعتبرت الأضخم منذ بدء برنامج مناورات "نسيم البحر" عام 1997.
جاء رد الفعل الروسي على مناورة "الناتو" حادّاً؛ إذ لم يكتفِ القادة الروس بالاعتراض الدبلوماسي والنقد السياسي، بل ذهبوا إلى اتخاذ خطواتٍ عسكريةٍ ردعية. اعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المناورات "استفزازية" و"تحدّياً خطيراً لروسيا" وأنّها غير مقرّرة سابقاً. وكرّست السلطات الروسية، التشريعية والتنفيذية، كثيراً من اجتماعاتها وجلساتها لمناقشة هذه القضية، محذّرة من اللعب بالنار. فقد أعلن نائب وزير الخارجية الروسية، المسؤول عن ملف العلاقات الروسية الأميركية، سيرغي ريابكوف، في مجلس الدوما، أنّ "واشنطن تواصل ممارساتها الاستفزازية، وتدفع مقاتلاتها وسفنها البحرية إلى مقربة مباشرة من الحدود الروسية"، واعتبر بيان وزارة الدفاع الروسية المناورات العسكرية الأميركية في البحر الأسود دليلاً على أنّ الولايات المتحدة تدرس مسرح الحرب المزعوم في حال تصاعدت حدّة التوتر في الدونباس في شرق أوكرانيا. كما وجّهت تحذيراتٍ عديدة من خلال القنوات الرسمية، وغير الرسمية، منعًا لتجاوزاتٍ في البحر في أثناء المناورات، وأجرت مناورات بحرية مع البحرية الجزائرية غرب البحر الأبيض المتوسط. كما تم الإعلان عن إطلاق صاروخ باليستي جديد عابر للقارّات من مركز "بليسيتسك" الفضائي في شمال غربي البلاد، واختبار الفرقاطة "الأميرال غورشكوف" صاروخ "تسيركون" الفرط صوتي؛ مداه ألف كيلومتر. قال الجيش الروسي، في بيانه، إنّه أطلق الصاروخ باتجاه هدفٍ بحري في مياه البحر الأبيض، وتمت إصابة الهدف بـ"ضربة مباشرة"، وإجراء تجربة ناجحة لصاروخ مضادّ للأقمار الاصطناعية. وكانت أعلنت قطع علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) اعتباراً من أول نوفمبر الجاري، وإلى أجل غير مسمّى.
ارتبط رد الفعل الروسي الحادّ بعاملين رئيسين: الخشية من تمدّد جديد لـ"الناتو" نحو حدودها الغربية بانضمام أوكرانيا، الذي سبق لها واعتبرته خطّا أحمر، ترى في انضمام أوكرانيا للحلف تهديدا لمصالحها الأمنية، واستيطان قوات الحلف في البحر الأسود، الذي طالما اعتبرته بحيرةً مغلقةً يحظر دخولها والإبحار فيها من دون ضوابط، بموجب بنود اتفاقية مونترو عام 1936، ورغبت في السيطرة عليه، خصوصا بعد احتلالها شبه جزيرة القرم وضمها. ومنذ ذلك الحين، ضاعفت ساحلها الفعلي على البحر الأسود ثلاث مرات، كانت، قبل انضمام بلغاريا ورومانيا لحلف الناتو، قادرة على الوصول إلى معظم شواطئه، وعزّزت قواتها الصاروخية في المنطقة، ما منحها فرصة زيادة نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما جعلها تتحفّظ على مشروع تركي لشق قناة جديدة غرب إسطنبول، تصل البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، لتخفيف الضغط على البوسفور والدردنيل، لأنّها لن تكون خاضعة لاتفاقية مونترو، التي تضمن حرية مرور سفن الشحن عبر المضائق التركية في أوقات السلم، وتفرض أحكاماً في تنظيم مرور السفن الحربية، مثل ضرورة إخطار تركيا بتحركاتها مسبقاً وتحديد مدة بقائها فيه بواحد وعشرين يوماً.
استغلت روسيا لحظة سياسية مواتية للتصعيد، أساسها انشغال الغرب برأب الصدع داخل تحالفه وبقضايا المناخ والأوبئة واحتواء الصين، من جهة، وارتفاع أسعار الغاز والنفط مع حلول فصل الشتاء، حيث تزداد الحاجة إلى الوقود لمواجهة البرد، ما جعلها في موقع قوة في مواجهة دول الاتحاد الأوروبي، من جهة ثانية، فعملت على توتير العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي، في ضوء تباين مواقفها من الهجرة والمهاجرين، بدفع مهاجرين إلى الحدود البيلاروسية البولندية.
اختارت قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) توقيت المناورة، التي لم تكن مقرّرة، في ضوء تنامي الضغوط الروسية على أوكرانيا، حيث لم تكتف روسيا بحشد قواتها على الحدود، بلغ عدد القوات المنتشرة قرب الحدود الأوكرانية المائة ألف جندي مع دبابات وعتاد ثقيل، بل ذهبت بعيدا بإعلان بوتين "أن الأوكرانيين والروس شعب واحد"، وسعيه إلى إعادة دمج أوكرانيا في روسيا الكبرى، واعتباره التعاون الأوكراني مع "الناتو" تهديداً للأمن القومي الروسي، واتخاذه قراراتٍ تفاقم التوترات أكثر، مثل توقيعه مرسوما يقضي بتقديم الدعم الإنساني لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، بذريعة الحصار الاقتصادي الذي يتعرّضان له، اعتبر مقدّمة للاعتراف بهما وضمهما إلى الأراضي الروسية، فزادت المخاوف من توغل روسي موسّع في أوكرانيا. لذا جاءت المناورة الأطلسية لتوجيه رسالتين إلى روسيا، تتعلق الأولى بردع أي عمل عسكري ضد أوكرانيا ومفادها: سيكون هناك ردّ قوي ومنسّق. والثانية وتتعلق برفض السعي الروسي إلى السيطرة على البحر الأسود. بعد مطالبة روسيا بالمياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم، باعتبارها مياهاً روسية، أرسلت المملكة المتحدة يوم 23 يونيو/حزيران 2021، المدمرة البريطانية "أتش أم أس ديفندر" إلى تلك المياه، حيث دخلت فترة وجيزة إلى المنطقة الإقليمية الممتدة على مسافة 12 ميلاً حول شبه الجزيرة، عملا بحق "المرور البريء" الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فردّت القوات الروسية بإطلاق طلقاتٍ تحذيرية، كانت القوات الروسية قد تعقبت يوم 1/7/2021 فرقاطة إيطالية وأخرى هولندية، للسبب نفسه. وهذا بالإضافة إلى التخوّف من أن تعمد روسيا إلى غزو دول البلطيق أو أوكرانيا، دفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى تعزيز وجوده في دول "المواجهة" مع روسيا، دول البلطيق الثلاث وبلغاريا ورومانيا وبولندا، والاستفادة من خدمات موانئ جورجيا وأوكرانيا اللوجستية، وتوسيع ساحة عمليات الأسطول السادس الأميركي لتشمل البحر الأسود، خطوة في خطة تعطي البحر الأسود دورا خاصا في احتواء روسيا، والتحضير لضم أوكرانيا وجورجيا إلى صفوفه، فـ"الطريق إلى الناتو مفتوح دائماً أمام كييف وتبليسي" كما صرح وزير الدفاع الأميركي، الجنرال لويد أوستن، لتوسيع ساحة عمل الحلف وشرعية وجود قواته في البحر الأسود وحمايتهما من أي اعتداء روسي، واستنزاف روسيا وإنهاكها اقتصادياً وعسكرياً، وصرف اهتمامها عن القضايا الملحّة في مواقع أخرى.
وقد زاد اتفاق وزراء دفاع حلف الناتو على "خطة شاملة للدفاع عن أراضي دوله" وإعلان أمين عامه، ينس ستولتنبرغ، أنّ الحلف "يعتبر منطقة البحر الأسود منطقة استراتيجية" ودعوة رئيس الأركان البريطاني، الفريق أول سير نك كارتر، إلى الاستعداد للحرب مع روسيا، وتعهد الولايات المتحدة وألمانيا بالوقوف معاً في وجه أي "استفزاز روسي"، من حدّة الاشتباك وارتفاع منسوب الضغوط المتبادلة في ضوء تخوف روسيا من احتمال زيادة "الناتو" وجوده العسكري في أوروبا الشرقية ونظرتها إلى تعاون أوكرانيا العسكري مع "الناتو"، قالت "إنها تحوّلت إلى حاملة طائرات غربية". بلغت الضغوط المتبادلة حد التلويح بالحرب. قال الخبير العسكري الروسي، أوليغ كوزنتسوف، في حديثه لـ"الجزيرة نت"، إنّ "روسيا حشدت عدداً كافياً من القوات في منطقة البحر الأسود لصدّ أيّ عدوانٍ بالأسلحة التقليدية" فروسيا تمتلك أوراقاً لزعزعة استقرار دول على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، والذهاب إلى حرب نووية في حال تهديد "الناتو" حدودها الغربية، في ضوء اقتناع الرئيس الروسي، بوتين، بأنّه حان وقت تغيير توجهات السياسة الخارجية الروسية، لأنّه بات يؤمن بأنّ الغرب لا يفهم سوى لغة القوة، وفق قول مدير مركز "كارنيغي" في موسكو، ديمتري ترينين، خصوصاً بعدما نجح في حشد الشعب الروسي، من خلال إظهار روسيا بمظهر ضحية إساءات الغرب وخداعه وتطويقه لها.
تنطلق روسيا من اعتبار "الناتو" مصدر الخطر المركزي عليها في منطقة أوراسيا، وأنّه لا يزال يمثّل التهديد الأكبر لها كقوة دولية تسعى إلى استعادة مكانتها قطباً دولياً. في حين ينطلق التحالف الغربي من أهمية الموقع الاستراتيجي للبحر الأسود الذي يضعه في مكانةٍ مهمةٍ لأمن الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الناتو، والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم فإنّ احتلال روسيا شبه جزيرة القرم ووجودها العسكري في جورجيا وتعزيز قدراتها العسكرية في المنطقة يقوّض أمنه، ما يستدعي، برأي قادته، تطوير استراتيجية جديدة تنطوي على إعطاء البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط دوراً خاصاً في احتواء روسيا في المستقبل. يثير هذا الاشتباك المتصاعد الهواجس والمخاوف من الانزلاق نحو مواجهة مدمرة.