الأخلاق في الحيز العام.. سؤال يتجدد
كثيراً ما يُثار النقاش بخصوص ضرورة الحفاظ على الأخلاق والآداب العامة حمايةً للمجتمع من خطر التفكك الأخلاقي.
تفترض هذه الفكرة ضرورة وجود رقابة دائمة على السلوك الفردي أو الجمعي في الحيز العام لضمان ألا يخرق هذا السلوك مع الأخلاق العامة.
بعيداً عن غموض مصطلح "الأخلاق العامة" وطابعه المطاطي، تبدو الفكرة، في ظاهرها، حريصةً على الصالح العام، لكنها في جوهرها فكرة استبدادية تقوم على افتراض أن قيم مجموعة معينة في المجتمع، تُمنح تسمية "الأخلاق العامة" هي الأفضل والأصح وينبغي لبقية المجتمع أن يتبعها.
الفكرة استبدادية بامتياز وتستند على مجموعة التباسات في التفكير بحاجة إلى تفكيكها لإيضاح طابعها الاستبدادي.
اولاً، ما هو الحيز العام؟ بالمعنى الجغرافي، هو يشير إلى كل الأماكن العامة المفتوحة لاستخدام جميع أفراد المجتمع أو جمهور المواطنين على نحو غير مشروط.
تشمل هذه الشوارع والساحات والمتنزهات والأسواق والغابات وما إليها مما يقع استخدامه ضمن الحق العام والطبيعي للناس كمواطنين أو أفراد.
يختلف الحيز العام عن حيز الدولة الذي يشير إلى ما تمتلكه هذه الأخيرة من مؤسسات ومبان يكون استخدامها مشروطا ومقتصراً على فئات معينة من الناس بحسب ضوابط تضعها الدولة كما هو الحال في المدارس والمستشفيات الحكومية.
الغرض من هذه المؤسسات والمباني هو خدمة الصالح العام على النحو الذي يحدده القانون لكل واحدة منها، بعكس امتلاكها وتحكمها بحيز الدولة، لا تمتلك الدولة الحيز العام أو تتحكم به (إلا في حالات الطوارئ كما في اندلاع الحرائق أو تعرض الأمن العام للخطر أو تفشي الامراض).
علاقة الدولة بالحيز العام هي علاقة تنظيمية فحسب، فهي تنظمه وتحميه لصالح استخدام المجتمع له، لأن هذا الاستخدام يقع ضمن الحقوق الطبيعية لأفراد المجتمع.
ثم هناك الحيز شبه العام، وهو الحيز الذي يمتلكه ويديره أفراد أو مؤسسات أهلية وليست حكومية ومتاح للجميع على نحو مشروط سواءٌ لأغراض ربحية، طابعها اقتصادي بحت أو غير ربحية، طابعها نفسي وروحي وثقافي، كما في المطاعم والمحال التجارية والمقاهي والمسارح والنوادي والمتاحف والجوامع والكنائس.
استخدام هذه الأماكن مرهون بتلبية الشروط التي يضعها مالكوها أو المسؤولون عنها مقابل استخدامها كما في دفع مبالغ مالية لتلقي الخدمة أو البضاعة المطلوبة في المطاعم والمحال التجارية والمسارح أو في اتباع ضوابط سلوك محددة ومتفق عليها ضمناً بين الطرفين كما في الجوامع والكنائس ودور العبادة.
ثم هناك اخيراً الحيز الخاص الذي يشمل بيوت الأفراد ولا يقع عادةً تحت إشراف الدولة او سيطرتها كما أنه لا يخضع لتدخل الدولة فيه إلا في الحالات الاستثنائية المتعلقة بخرق القانون كما في حصول حالات القتل أو التهديد بالعنف.
لكل واحد من أنواع الحيز الأربعة هذه لائحته السلوكية الخاصة به، وهي في العموم تتحدد على أساس ما يقرره مالكو الحيز أو المشرفون عليه بشرط عدم إلحاق الأذى بالآخرين أو خرق القانون.
فللعائلة التي تعيش في منزلها أن تتصرف فيه على النحو الذي تشاء ما دامت لا تؤذي الجيران من خلال الضوضاء العالية مثلاً. في حيز الدولة، تحدد الضوابط المكتوبة السلوكَ المقبول، وهذا الحيز في العادة مرتبط بتقديم الخدمات كما في الدوائر الرسمية والمدارس والمستشفيات.
نادراً ما يثير هذا الحيز نقاشاً بخصوص الأخلاق العامة في المجتمع لأنه حيز غير مخصص للفعاليات الاجتماعية والترفيهية أو لا تجري فيه هذه الفعاليات إلا على نحو نادر ومسيطر عليه.
مثار الخلاف عادة هو في الحيزين العام وشبه العام. في الحيز شبه العام الذي يتضمن الكثير من الأماكن ذات الطابع الاجتماعي والترفيهي كالنوادي والمطاعم والفنادق والمسارح، تحدد وظيفةُ المكان المعلنة والمجازة رسمياً من الدولة لائحةَ سلوكه الأخلاقية.
فالنوادي والمطاعم والفنادق والمسارح مثلاً هي أمكنة لتقديم بضائع معينة: أطعمة ومشروبات وفعاليات تمثيلية وغنائية وموسيقية.
نوعية البضائع هذه مرهونة باتفاق الطرفين المعنيين وقبولهما بها وهذا الطرفان هما المالكون والزبائن وليس بالتقييمات الأخلاقية لأطراف ثالثة في المجتمع ليست جزءاً من هذين الطرفين المتعاقدين.
لا يمكن التدخل في حياة هذه الأماكن وسلوكها ما دامت لا تخرج عن الوظيفة المعلنة والقانونية لها. فالوظيفة المعلنة والقانونية للفندق مثلاً هي إيواء الزبائن فيه، لكن تحوله الى مكان لبيع الجنس وتلقيه، أي الدعارة، يخرجه عن وظيفته المعلنة ويوقعه تحت طائلة العقاب الذي تتولاه الدولة حصراً.
السبب في ذلك ليس الغضب الأخلاقي من السلوك، وانما خرق هذا السلوك للقانون الذي يمنع الدعارة ويحاسب عليها. ينطبق نفس الأمر عند تحول نواد أو مطاعم إلى أماكن لتعاطي المخدرات أو الإتجار بها.
أما بخصوص الحيز العام، فلا توجد لائحة سلوكية أو أخلاقية تقرر السلوك المقبول فيه، فالأمر هنا متروك لتنوع المجتمع وتفاعل أفراده في الأماكن المختلفة التي تعكس ثقافة هؤلاء الأفراد شرط عدم خرقه للقانون، وليس ما تقرره مجموعة واحدة في المجتمع وتفرضه على بقية أفراد المجتمع وأماكنه باسم الدفاع عن الأخلاق.
مثلاً، هناك مناطق محافظة اجتماعية، تنظر بارتياب إلى اختلاط الرجال والنساء في الحيز العام، فيما هناك مناطق أخرى لا ترى مانعاً في مثل هذا الاختلاط.
لا يمكن لأي من المجموعتين أن تفرض قيمها على المجموعة الأخرى وتطالبها بأن تتبع سلوكاً لا يمثلها فهذا أحد أشكال التغول الاجتماعي على الآخرين.
وحتى عند اختلاف بعض الأفراد مع قيم مجموعتهم، فإنه يحق لهم اتباع السلوك الذي يرونه صحيحاً ما دام هذا السلوك لا يخرق القانون، كما في حالة رغبة بعض الرجال والنساء الاختلاط في حيز عام في منطقة ترفض اجتماعياً مثل هذا الأمر.
المعيار هنا هو القانون الذي لا يمنع الاختلاط، وليس القيم الاجتماعية السائدة في المنطقة، لأن القانون ملزم للجميع، بعكس القيم الأخلاقية السائدة التي هي ملزمة للذين يؤمنون بها.
محاولة فرض القيم الاجتماعية السائدة على أفراد لا يقبلون بهذه القيم هي أحد أنواع الاستبداد الذي يُبرر على نحو خاطئ ومتعسف باسم الأخلاق العامة.
القانون هو الذي ينظم تفاعل الأفراد في الحيز العام ويحسم الاختلاف بينهم عند وقوعه، وليس المنظومة الأخلاقية لأي مجموعة في المجتمع. الأخلاق، على تنوعها الواسع، تنظم سلوك الذي يؤمنون بها ويتبنونها وليس سلوك الأخرين الذين يُعرِّفون الأخلاق على نحو مختلف.
هذا هو معنى الحرية والتنوع والتعددية. خلافها هو الاستبداد والتغول والقمع.