حريّة ضـدّ الدّيمقراطيّة
إذا كانت الدّيمقراطيّات الغربيّة قد تمتّعت بالنّموّ المطّرد وبالاستقرار، وبالقدرة على مغالبة الهزّات الاجتماعيّة والسّياسيّة - وآخرها الهَزّة النّازيّة العنيفة
فلأنّ واحداً من أهمّ أسباب ضمان شروط استقرارها ومِنْعتها، إجماعُ المجتمعات الغربيّة عليها بوصفها النّظام السّياسيّ الأمثل لتعبير المجتمع عن مطالبه وتطلّعاته، ولإدارة شؤونه العامّة على مقتضى مشاركة المواطنين في صنع حاضرهم ومستقبلهم.
إنّها تؤمّن لهم التّمثيل الصّحيح الذي يسوِّغ لهم الشّعور الجمْعيّ بأنّ المؤسّسات قائمة بإرادتهم، وأنّ السّياسات العامّة تترجم اتّجاهات الرّأي العامّ وليست مفروضة عليهم من قِبل نخبةٍ مّا حاكمة. لذلك لا تفرض الدّيمقراطيّة نفسها، في تلك المجتمعات، بقوّة أجهزة الدّول والمنظومات القانونيّة فيها، بل بقوّة مقبوليّتها لدى شعوب بلدان الغرب ودفاعِ هذه عنها.
من الطّبيعي، إذن، أن يطمئنّ الغرب على نظامه الدّيمقراطيّ الذي لم يعد يحتاج إلى دولةٍ تدافع عنه، لأنّه محميّ من المجتمع والرّأي العامّ ومحصَّنٌ ضدّ الأخطار الفاجئة. وهذا اطمئنانٌ غيرُ مشروط؛ إذ هو قائم حتّى حينما يكون البلدُ عرضةً لأزمةٍ سياسيّة مزمنة تضطرب بها الأحوالُ العامّة. (وكمْ من الأَزْمات السّياسيّة أَلَمَّت بالبلدان الغربيّة، ولكنّها سريعاً ما استوعبَتْها). بل يُنْظَر إلى هذا النّظام الدّيمقراطيّ بما هو النّظام الوحيد القمين بمعالجة الأزمات إن وقعت، وحلِّها الحلَّ السّياسيّ المناسب والمعبّر عن التّوافق المجتمعيّ العامّ.
وراء استتباب النّظام الدّيمقراطيّ ومقبوليّتهِ مجتمعيّاً واستقرارِ مجتمعاته وبلدانه يَـكْمَن عامِلٌ رئيسٌ ومؤسِّس: الحريّة. هذه اِسْمنتُه ومبدأ لَمحته والمِدْماكُ الذي عليه مَبْناهُ وصَرْحُه. من غير حريّةٍ لا مجال لقيامِ نظامٍ ديمقراطيّ؛ فهي الحقُّ الأساس في قلبِ منظومة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة (= حقوق المواطَنة) التي لا قيام للدّيمقراطيّة إلاّ بها. ويكفينا بياناً لهذه العلاقة أنّه، من جهة التّجربة التّاريخيّة، لم تنشأ ديمقراطيّة حقيقيّة إلاّ في البلدان التي تمتّع فيها مواطنوها بحقوقهم السّياسيّة، وأوّلها الحرّية، لأنّ الدّيمقراطيّة نفسَها حقٌّ من حقوق المواطنة؛ فالحريّة وحدها تَحمل المواطنين على الشّعور بجدوى الدّيمقراطيّة كنظامٍ يعبّر عن إرادتهم، ووحدها تَحْفِزُهم على المشاركة وعلى التّنميّة السّياسيّة لبلدانهم، ووحدها تضمن لهم حقّ الدّفاع عن مكتسباتهم السّياسيّة في وجْه محاولات التّراجُع عنها أو الانتقاص منها.
إنّ الحريّة، في منطق الدّولة الحديثة، لم يقع التّسليم بها كحقٍّ سياسيّ للمواطنين إلاّ من أجل أن يُسخِّرها هؤلاء للمشاركة في الشّؤون العامّة، وللتّنميّة السّياسيّة والاجتماعيّة للدّولة والمجتمع. ومعنى ذلك أنّها حقٌّ يُشَرَّع ويُمَتَّع به أعضاء الدّولة (= المواطنون) في مقابل واجبٍ عليهم تأديتُه تجاه تلك الدّولة ومؤسّساتها ونموّها واستقرارها، وذلك من طريق مشاركتهم السّياسيّة في الحياة العامّة قصد تجديد تلك المؤسّسات، وتفعيل مبدإ التّداول على السّلطة، ومراقبة أداء الأجهزة التّنفيذيّة للسّلطة وسوى ذلك ممّا تقضي به المواطنة. إنّها، بهذا المعنى، ليست عطاءً مجانيّاً أو رِشوةً لشراء استنكاف المواطنين عن المشاركة السّياسيّة، وهي لا يمكن أن تكون بهذا المعنى سوى في دولٍ لا تقوم فيها أنظمة ديمقراطيّة ولا تتمتّع شعوبَها بحقوقها السّياسيّة.
غير أنّ الحريّة، التي كانت مفتاحاً لتنمية الحياة السّياسيّة في مجتمعات الغرب، تحوّلت في مراحلَ لاحقة إلى سببٍ لإفقارها، بل لإقحالها وتجفيف ينابيعها. لم يعد مجهولاً ما يتعرّض له النّظام الدّيمقراطيّ في الغرب، اليوم، من مخاطر التّكلّس والجمود وفقدان التّمثيل، والافتقار إلى وسائل المراقبة وإلى تجديد النّخب نتيجة ظاهرة العزوف عن المشاركة السّياسيّة، ومنها المشاركة في التّصويت. لقد بات المواطنون يستخدمون الحرّية، في معظم دول الغرب، استخداماً سيّئاً ونكوصيّاً؛ وبدلاً من أن يتوسّلوها للمشاركة بالرّأي في الشّؤون العامّة، وإنتاج التّمثيل والمؤسّسات و، بالتّالي، النّخبَ والسّياساتِ أصبحوا يتوسّلونها للخروج من المجال العامّ جملةً ومن أجل تسخيرها الأنانيّ للتّمتّع بها في المجال الخاصّ! بات المواطن، مثلاً، يستسهل احتكار حريّته لنفسه، وكأنّها مجرّد حريّة شخصيّة لا غير، وإتيان اللاّمبالاة تجاه حقّ المجتمع والدّولة فيها. وهكذا يغيّر جوهرها، كحريّةٍ سياسيّة، من كونها حقّاً عامّاً إلى حيث تصير حقّاً خاصّاً فرديّاً لا يشاركه فيه أحد! إنّها الفردانيّة المُنْفَلِتَة من كلّ عِقال تلك التي تُجوِّز له ذلك الاستخدام الأنانيّ للحريّة؛ تلك التي تصوِّر له أن الذّهاب يوم الاقتراع، مثلاً، إلى الغابة للاسترواح أدْعى إلى الطّلب من الذّهاب لأداء واجب التّصويت في مكتب الاقتراع!