بوتين: روسيا ليست غاضبة.. روسيا تركّز
نشر الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر مقالة في صحيفة "زافترا" الروسية، حول المؤتمر الصحفي الكبير الذي أعتاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقده نهاية كل عام. وجاء في المقالة:
اعتاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية كل عام، عقد مؤتمر صحفي كبير، يلّخص فيه الأحداث، والمواقف السياسية لعام مضى، ويرسم فيه ملامح رؤيته للقادم من الأيام.
يُعقد المؤتمر الصحفي لـ "حصاد العام" في شهر ديسمبر، يوم الخميس الثالث أو الرابع، وهو تقليد اتبعه بوتين منذ عام 2001، انقطع فقط في الفترة التي شغل فيها منصب رئيس الوزراء (من مايو 2008 وحتى مايو 2012)، ثم توالت المؤتمرات بعد ذلك حتى يومنا هذا، ليصبح المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الروسي، الخميس 23 ديسمبر 2021، هو المؤتمر السابع عشر لبوتين. كذلك فلدى الرئيس مناسبة أخرى يلتقي فيها مع "الشعب" ومع وسائل الإعلام، وهي "الخط المباشر مع بوتين"، حيث عقد ذلك الحوار في 30 يونيو 2021، وكان الحوار المباشر العشرين مع بوتين. يجيب الرئيس على جميع الأسئلة التي تشمل كافة قضايا السياسة الداخلية والخارجية لروسيا، وكثيراً ما ينتج عن هذه الفعاليات تسليط الضوء على بعض أوجه القصور لدى الإدارة، أو توجيه الاهتمام لبعض القضايا التي لم تلتفت إليها الحكومة، كما يطرح بوتين في الأغلب وجهة نظره فيما يخص السياسة الخارجية الروسية، وهو ما يكسب المؤتمر هذا العام أهمية خاصة، نظراً للوقت الدقيق الذي يُعقد فيه المؤتمر، في لحظة تاريخية حاسمة احتدت فيها الأطراف واكتسبت نبرة ومضمون الخطاب الروسي درجة واضحة من الصرامة والحدة، حينما نشرت الخارجية الروسية، الجمعة 17 ديسمبر، مطالباً روسية بشأن ضمانات أمنية، لوقف تمدد حلف "الناتو" نحو الشرق، وتهديده للأمن القومي الروسي، سعياً لاستقرار القارة الأوروبية.
في المؤتمر المنعقد يوم الخميس، عرج بوتين إلى نقطة الضمانات الأمنية، فقال إن الحلف كان قد وعد بعدم التمدد "شبراً واحداً إلى الشرق"، وتساءل عن النتيجة: "فماذا حدث؟ لقد خدعونا! خدعونا بوقاحة، وتمددوا شرقاً من خلال خمس موجات لتوسع الحلف". وفي كل مرة كانت روسيا تعرب عن قلقها إزاء تمدد الحلف نحو الشرق، كان الحلف يتجاهل هذا القلق، ويفعل ما يراه مناسباً له، دون مراعاة لمصالح موسكو.
أشار الرئيس الروسي إلى أن توسع حلف "الناتو" نحو الشرق أسفر عن نشر منظومات عسكرية هجومية لـ "الناتو" في رومانيا وبولندا، على مقربة من الحدود الروسية، بينما يتحدث الحلف اليوم عن إمكانية انضمام أوكرانيا إليه، أو نشر منظومات هجومية على أراضيها بموجب اتفاقيات ثنائية.
وتابع بوتين: "هل نحن من ينشر صواريخه قرب حدود الولايات المتحدة الأمريكية؟ بل هي من جاءت بصواريخها إلى بيتنا، وأصبحت عند عتبته حالياً. فهل يعدّ طلب عدم نشر المزيد من المنظومات الهجومية عند حدودنا أمراً مبالغ فيه؟ هل هناك غرابة في ذلك؟ ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة إذا ما نشرنا صواريخنا على الحدود المكسيكية الأمريكية؟".
كذلك أكّد بوتين على أن روسيا لا تهدد أحداً، لكنها لا تتسامح مع محاولات جعلها طرفاً في النزاع الأوكراني، حيث رجّح الرئيس أن التطورات الأخيرة حول إقليم دونباس، جنوب شرق أوكرانيا، تشير إلى استعدادات تقوم بها الحكومة الأوكرانية لشن عملية عسكرية جديدة على تلك المنطقة، حيث أعاد إلى الذاكرة ما حدث في السابق، حينما بذلت الحكومة الروسية كثيراً من الجهود من أجل تفادي اندلاع القتال في دونباس، وكشف أنه شخصياً توسّل إلى الرئيس الأوكراني السابق، بيترو بوروشينكو، كي لا يقوم بعملية عسكرية في دونباس، فقال له بوروشينكو: نعم، نعم، ثم أطلق العملية.
أشار بوتين إلى أن السلطات الأوكرانية حاولت مرتين حسم قضية دونباس بالقوة، وباءت محاولاتها بالفشل، والآن هناك انطباع بأن التحضيرات جارية ربما لعملية عسكرية ثالثة في دونباس، بينما يحذر الغرب روسيا من التدخل، ملوّحاً بعقوبات جديدة، وهو ما يعتقد بوتين أنه تمهيد لهذا السيناريو.
في سياق متصل صرح المبعوث الأمريكي السابق، جيمس جيفري، لجريدة "الشرق الأوسط"، خلال حوار نشر يوم الأربعاء، 22 ديسمبر، بأن روسيا بالفعل "في مستنقع سوريا" وقال: "نحن نجحنا"، وبسؤاله عن الكيفية أجاب أن "روسيا تسيطر على الجو لدعم قوات النظام ومحاربة (داعش). الاقتصاد السوري في كارثة. حاول الروس إعادة اللاجئين، لكن لم يعد أحد. ولم يكسب (الأسد) أراضٍ إضافية، بل هو يسيطر عليها من خلال دول أخرى. أيضاً، الطائرات الإسرائيلية مسيطرة على الجو. ما لم يكن هذا مستنقعاً، فما هو تعريف المستنقع إذن؟!". ليوضح جيفري بعد ذلك أن الخيار إما صفقة أو مستنقع، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية، حسب قوله، في موقف تفاوضي أفضل.
تلك إذن هي استراتيجية "المستنقعات" للولايات المتحدة الأمريكية، هكذا فعلوا بيوغوسلافيا، هكذا حاولوا إغراق روسيا في "مستنقع الشيشان"، هكذا أغرقوا العراق في "مستنقع"، وأغرقوا ليبيا في "مستنقع" وهكذا يحاولون الآن إغراق روسيا في "مستنقع" أوكرانيا، كما يظنون أنهم نجحوا بالفعل في إغراقها بـ "مستنقع سوريا". لكن أحداً من الزعماء المحترمين لا يخبرنا كيف "هربوا من مستنقع أفغانستان" بعد عشرين عاماً من "الإصلاحات"، وبهذا القدر من الفشل والمذلة، أحداً لا يخبرنا من الشركاء "الإنسانيين"، عن حصيلة القتلى في تلك "المستنقعات" التجريبية من البشر، الذين يدعونهم إلى "الديمقراطية" و"الحرية"، لا أحد يخبرنا ماذا يحدث في اليوم التالي للثورات والانقلابات المدبرة، ولا أحد يخبرنا شيئاً عن واقع الاقتصاد الأوكراني، أو حياة المواطنين الأوكرانيين بعد ما حل بهم من "ديمقراطية" تدفع سلطتهم التشريعية إلى منع اللغة الروسية، وتصنيف المواطنين على أساس "الشعوب الأصلية" وغيرها من مواطني "الدرجة الثانية"، في عنصرية بغيضة موجهة لا إلى المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية وحدهم، ولكن كذلك إلى المواطنين الأوكرانيين من أصول بولندية أو رومانية وغيرها.
إن تمدد حلف "الناتو" شرقاً من خلال تدخله في القرارات السيادية لأوكرانيا، وما نلمحه وأشار إليه الرئيس الروسي من "استعدادات" و"تحضيرات" لعملية عسكرية في دونباس تشير جميعاً إلى خطر داهم يحيق بالقارة الأوروبية بأسرها إذا ما تهورت القيادة الأوكرانية بمثل هذا العبث.
لقد استخدم الرئيس بوتين الكلمة التي بعث بها لجميع الدول الأوروبية رجل الدولة والدبلوماسي العتيد، ألكسندر غورتشاكوف (1798-1883): "يلومون روسيا لعزلها لنفسها والتزامها الصمت في مواجهة الحقائق، التي لا تنسجم مع القانون أو العدالة. يقولون إنها غاضبة. روسيا لا تغضب، لكنها تركّز". وهذا ما تضمنته تحديداً المقترحات التي نشرتها وزارة الخارجية الروسية بشأن الاتفاقية الخاصة بالضمانات الأمنية لأمن روسيا والدول الأعضاء في حلف "الناتو"، المعنية باستقرار القارة الأوروبية، والنظام العالمي الجديد المبني على التعددية القطبية، لا على هيمنة القطب الواحد.
لكن الرئيس أشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استجابت لمبادرة موسكو بشأن الضمانات الأمنية المتبادلة، وتم تشكيل فريقين تفاوضيين، حيث أكد أن روسيا تأمل في بدء مفاوضات بشأن تلك الضمانات أوائل يناير القادم، وهي مستعدة لمناقشة تلك القضية خصوصاً على قاعدة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.