أسعار العملات

دولار / شيكل 3.29
دينار / شيكل 4.64
جنيه مصري / شيكل 0.21
ريال سعودي / شيكل 0.88
يورو / شيكل 3.92
حالة الطقس

القدس / فلسطين

الاثنين 20.24 C

خضار يا مصر

خضار يا مصر

خضار يا مصر

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

كفلاح نشأ سنواته الأولى في إحدى قرى دلتا النيل بريف مصر السفلي، لم يثلج صدري في السنوات الأخيرة كلها أكثر من منظر المساحات الخضراء الواسعة في الصحراء الغربية: شمالا فيما تسمى الدلتا الجديدة وجنوبا في محيط مفيض توشكى.

صحيح أن مصر تشهد في السنوات الأخيرة مشروعات هائلة في البنية التحتية وإنتاج الطاقة والتطوير العقاري ما يجعل المصريين يكررون شعارهم الإيجابي "عمار يا مصر". لكن، ورغم أن تلك المشروعات ربما كانت أكبر حجما وأعلى تكلفة إلا أن توسعة الرقعة الزراعية في مصر بهذا الشكل للمرة الأولى منذ عقود إنجاز أهم بكثير. وهذا ما يدفع المرء ليقول بعلو الصوت "خضار يا مصر".

شهدت معظم قطاعات الاقتصاد المصري تدهورا شديدا على مدى ما يقرب من نصف قرن، ولطالما لجأت الحكومات المتعاقبة إلى حلول مؤقتة لأغلب المشكلات.

ولم تكن تلك سمة قاصرة على مصر، أو المنطقة و حتى العالم النامي، بل منذ ثمانينات القرن الماضي وهي سمة عالمية عامة باللجوء لحلول آنية عاجلة (ترقيعية في الأغلب) لعلاج ظواهر وأعراض المشاكل دون التعرض للاختلال في الهيكل الذي أدى لتلك الأزمات والمشاكل. حتى في الأزمة المالية العالمية الأخيرة 2008-2009، كانت الحلول وما زالت جزئية طارئة دون إصلاح جذري لمسبباتها في النظام المالي العالمي.

تاريخيا، لا تبلغ نسبة الأراضي المزروعة في مصر سوى قدر ضئيل من مساحتها، وهي عبارة عن شريط ضيق على امتداد نهر النيل من حدود مصر مع السودان جنوبا وحتى القناطر الخيرية شمال العاصمة القاهرة. ثم مساحة أوسع في منطقة الدلتا حتى شواطئ المتوسط.

وتتركز الكثافة السكانية لنحو مئة مليون مصري في ذلك الشريط الضيق، أي مساحة لا تزيد إلا قليلا عن خمسة في المئة مساحة مصر.

على مدى العقود الأخيرة، وربما بوتيرة أكبر منذ سبيعينات القرن الماضي، أخذت الرقعة الخضراء في التآكل نتيجة الزحف العمراني على الأراضي الزراعية بسبب الزيادة السكانية، وأصبحت المساحة المزروعة لا تتجاوز نسبة ثلاثة في المئة من مساحة مصر.

كانت هناك مبادرات مختلفة لاستصلاح الأراضي الصحراوية، لكن أغلبها إما استخدمت في إنتاج محاصيل رفاهية أو تآكلت أيضا لتحولها إلى منتجعات سكنية أكثر منها زراعية. وعلى مدى السنين تحولت مصر إلى مستورد للغذاء من المنتجات الزراعية حتى أصبحت أكبر مستورد للقمح في العالم. وللقمح أهمية كبيرة في مصر، إذ أن الوجبة الأساسية للأسر المصرية تعتمد على الخبز المصنوع منه.

لذلك، يعتبر ما يحدث في مصر في العامين الأخيرين من استصلاح أكثر من مليوني فدان في الصحراء الغربية، والتخطيط لاستصلاح أكثر من نصف مليون فدان في شبه جزيرة سيناء بالاضافة إلى أكثر من مليون فدان في توشكى إنجازا ربما يكون الأهم على مدى أكثر من نصف قرن. خاصة وأنه على عكس التجارب السابقة في الاستصلاح، سبقت مصر بالاستثمار في إنتاج الطاقة ومد شبكة الطرق التي تربط المناطقة النخطط لاستصلاحها بشريط العمرن التقليدي. كما أن الأساليب الحديثة في الري ومشروعات معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها كفيلة بضمان الاستدامة لتلك التوسعة الخضراء التي تكاد تضاعف مساحة الرقعة الزراعية الحالية.

بالطبع، لن يخلو الأمر من تنغيص ممن لا يريدون لمصر خيرا سواء من تنظيمات متطرفة كالإخوان أو بعض المتلبرلين ممن يجيدون التنظير أكثر من العمل. حتى قطاع مما تسمى "النخبة" في مصر يشككون في هذا الإنجاز، أو ييرونه أقل أهمية من الصحة والتعليم مثلا. صحيح أن الصحة والتعليم من القطاعات الأولى بالاستثمار بكثافة لما شهداه منتدهور رهيب على مدى عقود، لكن تأمين غذاء الناس لا يقل أهمية.

البعض، بخبث أو بحسن نية، لا ينفك ينغص الأمر بالحديث عن الديون وأن كل تلك الاستثمارات تتم بالاقتراض. والحقيقة أنه لا مشكلة في الاقتراض، طالما أنه للتنمية والانتاج وليس فقط لتمويل الاستهلاك كما كان الحال دوما في السابق. فالنمو الاقتصادي وتوسع سوق العمل كفيل بتخفيف عبء الديون على المدى المتوسط والطويل.

لا يمكن إنكار أن الناس العادية في مصر تعاني من الارتفاع الرهيب في كلفة المعيشة، خاصة مع سياسة تقليص الدعم حتى غلغاؤه تماما. وهذا هو الدواء المر لإصلاح جذري ستكون نتائجه بالتأكيد أفضل مستقبلا من ترك الأمور على ما كانت عليه لتؤدي إلى الانهيار. وحتى الانفاق الاجتماعي للحكومة لتخفيف تبعات برنامج الإصلاح يصورها الإعلام المصري كأنها "منة" أو "حسنة" بما يوفر مادة للمغرضين وأعداء نجاح مصر كي يسخروا منها ويفرغوها من مضمونها لدى الناس العادية.

والحقيقة، كما اشتكى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه، أن الإعلام المصري متراجع جدا في تغطية ما يجري في البلاد وتوصيل رسالة حقيقية للناس. فما زال هو نفسه إلى حد كبير إعلام العهود السابقة وبعمل بالطريقة ذاتها التي قادت إلى انفجار جماهيري قبل عشر سنوات.

أما أغلبية من يسمون رجال أعمال في مصر، والذين يغمزوون ويلمزون بأن الدولة تحتكر المشروعات ولا تعطي القطاع الخاص فرصة فأغلبهم يرفع شعارات حق يراد بها باطل. فتلك المشروعات التي تقوم بها الدولة ينفذها مقاولون وشركات خاصة توظف مئات آلاف العاملين المصريين. لكن من ينتقدون إنما يريدون الاستمرار في تحقيق الأرباح السهلة من مشروعات أقرب للسمسرة على الاستهلاك وليس الاستثمار في مشروعات انتاج طويلة الأمد.

في النهاية، كل هؤلاء لا يعنون الكثير أمام صورة الحقول الخضراء الممتدة بمساحة مئات آلاف الفدادين، تنتج قمحا يأكله المصريون من خير أرضهم وبسواعد أبنائهم.

اقرأ أيضا