الأزمة الأوكرانية وإعادة تعريف الأمن القومي العربي
قبل أن تنتهي جائحة كورونا وقبل أن يتعافى العالم بشكل كامل من تداعياتها الكارثية التي طالت كل كبيرة وصغيرة في عالمنا المعاصر، ومست بشكل مباشر دوله كافة وشتى شعوبه.
اندلعت شرارة أزمة أخرى قد تكون أقوى أثرا وأشد وطأة وأكثر خطرا، ورغم أن الأزمة هذه المرة سياسية وعسكرية وليست جائحة صحية.
ورغم أن رحاها تدور بين بلدين أوروبيين فإن تداعياتها في أيامها الأولى تجاوزت حدود الجغرافيا الأوروبية لتشمل معظم قارات العالم، وتأثيراتها تجاوزت ساحات الحرب وطاولات مفاوضات السياسة لتمتد إلى الغذاء والطاقة، رغم أننا لا زلنا في بدايات الأزمة التي لا يعلم أحد متى أو كيف ستنتهي.
وكعادة منطقة الشرق الأوسط، التي دائما ما تكون الأكثر تأثرا بالأزمات الدولية حتى البعيدة منها عن حدودها الجغرافية، حافظ إقليمنا على هذه العادة، وكان من بين المناطق الأسرع والأكثر تأثرا بالأزمة الروسية الأوكرانية، فقبيل اندلاع شرارة هذه الأزمة وحتى في أيامها الأولى كان هناك من يتوهم في منطقتنا أنها مجرد حرب تقليدية بين بلدين لا نشاركهما الإقليم ولا الدين ولا الثقافة ولا الاهتمامات ولا الطموحات ولا المصير، وأن لا علاقة لنا نحن العرب بها سوى أن نقف في صفوف المتفرجين المحايدين هادئي الأعصاب، الذين لا يعنيهم من ينتصر أو من ينهزم أو كيف تسير الحرب أو متى تنتهي، لكن ما هي إلا أيام قليلة تلت الرابع والعشرين من فبراير الماضي إلا وقد أدرك معظم قاطني المنطقة -حتى من غير الخبراء و المتخصصين- أننا وإن كنا لا نشترك مع طرفي الأزمة في التاريخ أو الثقافة أو الدين.. إلخ، وإن كنا لا نقتسم معهم الإقليم، إلا أننا نقتسم معهم ما هو أهم، الغذاء، لأنه عندما كانوا يتساءلون عن السبب المفاجئ في ارتفاع أسعار معظم الموارد الغذائية في أكثر من بلد عربي، كانت تأتيهم الإجابة: إنها الأزمة الروسية الأوكرانية.
لذا وبعد أقل من ثلاثة أسابيع من العمليات العسكرية على الأراضي الأوكرانية، وفي محاولة للبحث عن الرابط بين ارتفاع الأسعار في بلدانهم وبين أزمة عسكرية أبعد ما تكون عن حدودهم، كان مواطنو عدد كبير من الدول العربية يبحثون عن ويتداولون فيما بينهم أرقاما تتعلق بنسبة إسهام طرفي الأزمة -روسيا وأكرانيا- في محاصيل غذائهم الرئيسية، لا سيما القمح والذرة ومشتقاتهما.
ربما لم يتفاجأ الكثيرون بعد أن وجدوا أن روسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم بـ37.3 مليون طن سنويا، في حين تأتي أوكرانيا في المركز الرابع بـ18.1 مليون طن سنويا، لكن ربما ما فاجأ بعضهم هو ما اكتشفوه من أن معظم الدول العربية، التي يعد فيها الخبز غذاء رئيسيا، تعتمد بشكل رئيسي على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا، بعد أن أظهرت لهم نتائج البحث أن عام 2020 على سبيل المثال شهد استحواذ الدول العربية وحدها على نحو 11 بالمئة من صادرات القمح العالمية، واستيرادها نحو 13.165 ألف طن من القمح من روسيا، وهو ما يشكل نسبة 35.3 بالمئة من مجمل صادرات أحد طرفي الأزمة من هذا المحصول الاستراتيجي، ونحو 7.598 ألف طن من أوكرانيا، وهو ما يمثل نسبة 42.1 بالمئة من مجمل صادرات طرف الأزمة الآخر من هذا المحصول، وفقا لبيانات اتحاد المصارف العربية.
هذا فيما يتعلق بالدول العربية مجتمعة، أما بالنظر إلى كل دولة عربية على حدة، فربما أدرك البعض للمرة الأولى أن مصر على سبيل المثال هي أكبر مشترٍ للقمح في العالم، وأكبر مشترٍ لكل من القمح الروسي، الذي استوردت 22.1 بالمئة من مجمل صادراته في عام 2020، وكذلك المشتري الأول للقمح الأوكراني، الذي اشترت في ذاك العام نحو 17 بالمئة من صادراته.
بقية الدول العربية ليست أحسن حالا أو أقل اعتمادا على قمح طرفي الأزمة، فلبنان على سبيل المثال يستورد نحو 80% من حاجته إلى القمح من أوكرانيا فقط، في حين يستورد النسبة المتبقية من روسيا ودول أخرى.
أما اليمن فيستورد كل احتياجاته من القمح وأكثر من ثلثه يأتي من روسيا وأوكرانيا.. دول المغرب العربي لا تختلف كثيرا، حيث يعتمد المغرب على أوكرانيا في توفير 19.5 بالمئة من احتياجاته من القمح، في حين يحصل من روسيا على نسبة 10.5 بالمئة، أما تونس فتحصل على نصف وارداتها من القمح تقريبا من أوكرانيا، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار فيها إلى أعلى مستوى لها في 14 عاما.
في ظل هذه الأرقام يبدو منطقيا أن يكون الشرق الأوسط من المناطق الأكثر تأثرا بالأزمة، والأكثر تضررا من استمرارها وإطالة أمدها، في ظل امتلاك معظم دوله مخزونا استراتيجيا من القمح يكفي فقط لأشهر معدودة، مع تضرر إمدادات القمح المتوقع، خاصة أن العمليات العسكرية تتركز في شرق أوكرانيا، التي تحتوي على الأراضي الزراعية الأعلى خصوبة والأوفر محصولا والأكثر إنتاجا للقمح على نحو يمكن الجزم معه بحدوث تراجع في معدلات إنتاجه، والارتفاع الكبير في أسعاره الحالية وكذلك أسعار التعاقدات المستقبلية، نتيجة لنقص المعروض وزيادة تكلفة نقله بعد ارتفاع أسعار البترول، وصعوبة نقله بعد إغلاق المواني الأوكرانية بالكامل، وفي ظل القرارات التي اتخذها طرفا الأزمة، لا سيما روسيا، بحظر تصدير الحبوب حتى نهاية أغسطس على أقل تقدير لتأمين احتياجاته المحلية بعد العقوبات القاسية المفروضة عليها.
وهو الأمر الذي أكدته منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الأخير، الذي أشار إلى أن "ما بين 8 ملايين و13 مليون شخص سيعانون الجوع في العالم بسبب عواقب الحرب في أوكرانيا، لا سيما في آسيا وشمال أفريقيا"، حيث تعتمد 26 دولة، معظمها في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، بأكثر من 50 بالمئة على هذين البلدين في واردات القمح.
وبناء على هذه المعطيات.. فإن الأزمة الروسية-الأوكرانية تمثل تهديدا جديا ووجوديا ومباشرا للأمن الغذائي العربي يستدعي حلولا عاجلة لتقليل تبعات هذه الأزمة إلى حدها الأدنى، وأخرى طويلة الأمد لتفادي تكرار آثارها، ولعل الدرس المستفاد الأول هنا هو إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي العربي وتضمين الأمن الغذائي باعتباره أحد مكوناته، وإعادة الاعتبار لمفهوم الأمن الغذائي العربي، والذي طالما كان الحديث عنه يعد من باب الرفاهية، أو من باب الشكليات أو المؤجلات في جدول أعمال اجتماعات بعض المنظمات والهيئات العربية.
وإلى أن يتم تحقيق الاكتفاء الذاتي لكل الدول العربية من الغذاء عبر رفع معدلات الإنتاج المحلي والتوسع في زراعة المحاصيل الرئيسية، فلا مناص من العودة مرة أخرى -لكن بإرادة حقيقية وجدية ونظرة مستقبلية- لدراسة إمكانيات وفرص التكامل الغذائي العربي من أجل تعزيز الأمن الغذائي لدول المنطقة كافة، عبر الاستثمار في مشروعات زراعية عربية مشتركة، وذلك في ظل وجود فوائض مالية عربية ضخمة وأراض عربية شاسعة قابلة للزراعة على امتداد الوطن العربي، وموارد وتجارب عربية متميزة في مجالات عدة ترتبط بشكل أو بآخر بعملية إنتاج الغذاء، ولا ينقصها فقط إلا التكامل، وإلى أن يتم ذلك لا بد من الاستعداد من الآن بحزمة من السياسات لتحمل ومواجهة تبعات الارتفاع العالمي الحالي والمتوقع لأسعار الحاصلات الزراعية الرئيسية وكذلك الوقود، في ظل توقع منظمة "الفاو" ارتفاع مؤشر أسعار المواد الغذائية من 8 بالمئة إلى 20 بالمئة، أعلى من مستواها الحالي، وأخيرا لا بد للدول العربية من ضرورة تنويع مصادر استيراد الغذاء، لا سيما القمح، واعتباره لا يقل أهمية عن تنويع مصادر السلاح.