"المكوّنات" في العراق.. إعادة تعريف
"المكوّنات" مصطلح دخل إلى العراق مع دبابات الغزو الأمريكي في عام 2003. وكانت الغاية منه هي إحلال هويات عِرقية وطائفية ومذهبية بدلا من الهوية الوطنية العراقية، ولكي يتبدد مفهوم "الشعب العراقي"، لتحل محله مفاهيم تحط من قيمة الانتماء لوطن، تنز صديدا، وتنبش خلافات، وتحفر خنادق.
وكان الأمل من ذلك هو جعل هذه "المكوّنات" تتنازع فيما بينها، بحيث لا تستقر البلاد من بعدها أبدا. وهذا ما حصل. وذهب "العُرف السياسي" إلى تكريسها حتى أصبحت السلطة التنفيذية، أو رئاسة الحكومة من حصة "المكوّن الشيعي"، ورئاسة البرلمان من حصة "المكوّن السّني"، بينما رئاسة الجمهورية من حصة "المكوّن الكردي".
ومع ظهور الحصص، تحولت "المحاصصة" إلى نظام، صار هو العمود الفقري لما يمكن أن يسمى "النظام السياسي". وهو لا يقتصر على تقاسم "الحصص" الكبيرة بين "المكوّنات"، ولكنه يتمدد إلى محاصصة الحصص بين تحالفات كل مكوّن. وهو ما جعل الفساد نظاما مؤسسيا يشترك فيه الجميع، حيث يسعى كل طرف إلى أن يتحكم بحصته على اعتبار أنها جزء من منافعه وامتيازاته. وبالتالي فإنها منفذ لتوقيع عقود وهمية أو نصف وهمية تذهب عائداتها إلى الطرف "صاحب الحصة".
بكلام آخر، فإن نظام المحاصصة، كان في واقع الأمر نظاما لشرعنة الفساد، وتوزيعه بالتساوي بين ذوي الحصص من أهل "المكوّنات"، بحيث لا يشكو أحد على أحد، ما دامت "حصته" مأمونة.
وبحسب مثال واحد، دون كثير من الأمثلة الأخرى، فقد أنفق العراق على قطاع الكهرباء 80 مليار دولار منذ عام 2003، ولكن ظل العراق يعاني نقص الكهرباء.
هذا المبلغ، إذا أخذنا تكلفة الوحدات الأربع لمُفاعل الضبعة المصري البالغة 30 مليار دولار، فإنه كان سيكفي لإقامة أكثر من عشر وحدات تنتج في مجموعها 12 ألف ميجاوات. بينما يُنتج السد العالي، الذي اعتمدت عليه مصر لخمسة عقود، 1600 ميجاوات.
وللمرء أن يتخيل مستوى الفساد وأعمال النهب المنظم التي أسفر عنها نظام "المحاصصة"، في هذا القطاع وباقي القطاعات الأخرى. فلا يُستغرب كيف "اختفت" من الحسابات الحكومية 450 مليار دولار حتى عام 2014.
هذا الوضع، وما تلاه من أزمات واختناقات ومشكلات اقتصادية واجتماعية ونزاعات، وصولا إلى ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، كان من أفاعيل تلك "المكوّنات" التي لا هي أدارت السلطة، ولا أنجزت شيئا يستحق النظر إليه، ولا حفظت البلاد من شر الإرهاب، ولا عرفت معنى التقوى في المحافظة على المال العام.
وبرغم ذلك كله، بل وبالإضافة إليه، فإن تعبير "المكوّنات" هو نفسه تعبير فاسد، ولا يقدم صورة فعلية عن طبيعته.
خذ على سبيل المثال، أن "المكون الشيعي" يشير إلى "الطائفة الشيعية"، كما أنه يشير إلى الأحزاب التي تنتمي إليها، بحيث يختلط المفهوم حتى لا تعرف مَنْ هو المقصود بالمصطلح. أهو الأحزاب التي "تنتمي" إلى هذه الطائفة، أم الطائفة نفسها. فإذا قيل إنه يقصد الأحزاب، فإن المرء يجب أن يكون "صاحب نكتة" حقيقيا، لكي يعتقد أن هذا يمثل ذاك أو ينتمي إليه بالفعل.
النزاع الراهن في البرلمان يدور كله تحت عنوان "المكوّنات"، ولكن دون أن تعرف ما علاقة مواطني البصرة أو الرمادي أو أربيل بهذا الطرف أو ذاك الذي يخلع على نفسه لقب "المكوّن".
المفارقة تتضح أكثر عندما تقول إن "المكوّن الشيعي" ظل يقوم بتظاهرات احتجاج ضد سلطة "المكوّن الشيعي". وإن "المكوّن الشيعي" حرق مقرات "المكوّن الشيعي" وأن هذا الأخير ظل يقوم بعمليات اغتيال ضد ناشطي المكوّن نفسه. فتعرف في النهاية أن التعبير مُخادع، ولا يقدم تعريفا صحيحا.
العراقيون ظلوا شعبا على أي حال. وتظاهراتهم واحتجاجاتهم ضد الفساد والتبعية لإيران، ما كانت لها أي صلة بمفهوم "المكوّنات"، ولا هم نظروا إلى أنفسهم على أنهم كائنات مختلفة عن بقية أبناء "الشعب العراقي" الذين ظلوا يعانون الفقر والحرمان والاضطهاد.
السبيل الصحيح للتمييز بين "المكوّن" وبين من يحملون لقب "المكوّن" يتطلب إعادة تعريف أحد الطرفين على الأقل.
على هذا الأساس، تجدر تسمية الذين يحشرون أنفسهم في "المكوّن" بينما هم ينتسبون إلى إيران، ليكونوا "المكوّن الإيراني"، أو "مكوّن الحرس الثوري" إذا كان المقصود هو الجماعات المسلحة التي تتبع أوامر هذا الحرس.. أو "مكوّن دولة الفساد"، أو "مكوّن الحروب الأهلية"، أو "المكوّن اللبناني" إذا كان المقصود ممثلي تجارة المخدرات الذين يتحالفون مع "حزب الله" الإرهابي في لبنان.
العراقيون، منذ أن اندلعت انتفاضتهم ضد الفساد والتبعية لإيران على الأقل، لم يعودوا "الأغلبية الصامتة"، فأصواتهم ظلت تصدح في كل الساحات والمناطق والمحافظات، بأنهم شعب واحد، جمع ما بينهم الظلم والفقر، وأنه لا علاقة لهم بأي مكوّن، ولا بالذين يزعمون تمثيله.
أصحاب "المكوّنات" الذين يتنازعون على تقاسم الحصص، أولى بهم أن يتخلوا عن اللقب، ويعثروا على تسميات تمثل ولاءاتهم الحقيقية.