زمام المبادرة في الحرب الأمريكية الروسية في أوكرانيا ينتقل إلى موسكو
لا أعتقد أن أحدا لا زال بحاجة لإقناعه أن الحرب في أوكرانيا هي مجرد جبهة من جبهات متعددة، وليست الجبهة الرئيسية للمواجهة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
لكن ساحة المعركة الرئيسية هي الاستقرار السياسي الداخلي لكل من القوتين النوويتين، اللتين لا تستطيعان القتال بشكل مباشر فيما بينهما، لهذا تستخدمان الأدوات المتاحة لتفجير مواقف بعضهما البعض من الداخل.
وتلك الأدوات مختلفة.
لم تخف الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية أن أوكرانيا يجب أن تلعب دور أفغانستان عملاقة بالنسبة لروسيا، حيث تحاول واشنطن السيطرة على شدة الصراع ونطاقه. فمن ناحية، تسعى إلى زيادة عدد المشاركين في الصراع من الغرب، حتى لا تسمح مواردهم وقوتهم العسكرية لروسيا بتحقيق النصر. ومن ناحية أخرى، يجب أن يبدو ذلك النصر قريبا من موسكو، حتى لا تخشى الرد على كل استفزاز آخر: أذربيجان في قرة باغ، ورومانيا في ترانسنيستريا، وبولندا في غرب أوكرانيا، أو على الحدود البولندية البيلاروسية (أزمة اللاجئين مثالا).
في الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة عدم ممارسة ضغوط كبيرة على موسكو، حتى لا يكون لدى القيادة الروسية رغبة في حل المشكلة بمساعدة الأسلحة النووية.
وهذا ما يفسر النطاق المحدود للغاية بشكل عام للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الغربية لأوكرانيا. حيث تكفي الأسلحة فقط لمواصلة الحرب، لكن الجيش الأوكراني الذي يبلغ قوامه مليون جندي، لا يزال غير قادر على القتال على قدم المساواة مع عدد محدود جدا من الوحدات الروسية.
لابد وأن يجري الصراع على نار هادئة، ويستنزف القوة والموارد والدم من روسيا ببطء، ولكن على نحو متزايد. ولا ينبغي أن تكون روسيا قادرة على التحكم في شدة واتجاه النزاع المسلح في أوكرانيا.
وتأمل واشنطن في أن يؤدي إهدار الموارد ومصاعب الحرب والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا إلى زعزعة استقرار البلاد، فالانقلاب أو الثورة، والفوضى اللاحقة.
في روسيا، المهمة بالعكس.
فالوضع الاقتصادي في الغرب يتجه نحو كارثة بنفسه دون تدخل من جانب روسيا، حيث أدت طباعة النقود غير المغطاة من قبل الغرب منذ أزمة عام 2008، بطبيعة الحال، إلى زيادة التضخم في العالم بأسره، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انهيار اقتصاد الغرب في غضون العام أو العامين المقبلين. وعندما يهدأ الغبار، لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة المهيمنة في العالم.
بالتالي، فإن ما يحتاجه بوتين فقد هو الصمود بطريقة ما لعدة سنوات، وعدم السماح للغرب بتفجير الوضع السياسي الداخلي في روسيا.
تذكرني تصرفات بوتين في أوكرانيا بطريقة المنوم المغناطيسي الذي يقول للجميع: "ناموا، ناموا..."، حيث ترفض موسكو بشكل قاطع التعبئة العامة للحرب، ولا تزال وحداتها العسكرية أصغر عدة مرات من الجيش الأوكراني، بينما اقتصرت القوات الروسية أنشطتها على أقسام صغيرة من الجبهة، رغم احتفاظها بتفوقها ومبادرتها على جميع المسارات المهمة.
يحدث ذلك على الرغم من أن كل من روسيا وأوكرانيا على وجه الخصوص لديهما من الأسباب ما يدفع لتوقع محاولات شن هجمات جديدة واسعة النطاق، إلا أن الجبهة استقرت بشكل عام، وأصبحت تشبه 8 سنوات من الحرب في دونباس، فقط تلعب أوكرانيا دور دونباس هذه المرة. تشن القوات المسلحة الروسية هجوما بطيئا، بينما تزعزع استقرار الوضع الداخلي في أوكرانيا، وتشل اقتصادها، وتجبر الغرب على إنفاق الموارد للحفاظ على أوكرانيا.
على هذا الوضع، بإمكان بوتين أن يشن حربا لمدة عام أو عامين أو حتى عشرة أعوام. في الوقت الذي لن يعاني المجتمع الروسي خلاله من الإجهاد، وسيكون الوضع السياسي الداخلي مستقرا.
هل هذا ما تقوله استطلاعات الرأي؟
وفقا لمؤسسة "الرأي العام"، يبلغ المستوى الحالي من الهدوء الاجتماعي 52%، وهو أعلى بكثير مما كان عليه في الـ 12 شهرا الماضية، بينما يبلغ مستوى القلق 41%.
لقد سجل خبراء المؤسسة، نهاية فبراير الماضي، بعد بدء العملية الخاصة في أوكرانيا 55% من حالات القلق أمام 39% فقط من حالات الهدوء، ومع ذلك، فقد كان الوضع يتجه بثبات نحو الهدوء خلال الشهر ونصف الشهر الماضيين.
وعلى الرغم من ارتفاع التضخم في الربيع، وبعض الصعوبات الاقتصادية بسبب العقوبات، إلا أنه لم يكن هناك تدهور حاد في نوعية الحياة بالمجتمع الروسي.
تظهر استطلاعات الرأي كذلك أن اهتمام الرأي العام بالعمل العسكري يتراجع باطراد منذ منتصف مارس، بينما تتم مراقبة الأحداث في أوكرانيا من قبل غالبية السكان على خلفية ما عداها من أحداث.
بهذه الطريقة نجح بوتين في أن يقلب الوضع بـ 180 درجة، وأصبحت الحرب في أوكرانيا تستنزف موارد الغرب وتزعزع استقراره، وليس روسيا كما كانت تأمل واشنطن.
كذلك فإن الاستقرار السياسي الداخلي، والنطاق المحدود للحرب في أوكرانيا، يسمحان لموسكو بالانتقال إلى المرحلة التالية، وربما المرحلة الرئيسية من المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية: المعركة الاقتصادية من أجل أوروبا.
فما أن سمع الخرفان الأوروبيون بالفعل صوت شحذ السكاكين، هرع قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا إلى كييف، حيث حاولوا إقناع زيلينسكي بعقد سلام مع روسيا في أقرب وقت ممكن. فقال ماكرون، بعد عناق حنون مع زيلينسكي، إن الأوروبيين لن يطالبوا بتنازلات عن أراضي أوكرانيا مقابل السلام (يجب أن يتخذ زيلينسكي هذا القرار بنفسه، ويتحمل المسؤولية عن ذلك بنفسه أيضا). ومع ذلك، فإن إصرار الأوروبيين على إثارة موضوع معاهدة سلام على خلفية بوتين الصامت، يشي بالكثير.
بطريقة أو بأخرى، فإن موسم الجلد العظيم في أوروبا قادم، حيث اتخذ الاتحاد الأوروبي عددا من القرارات التي تضر بنفسه، لدرجة أنه لم يعد لدى موسكو الكثير مما يمكنها أن تفعله لإغراق أوروبا في أزمة طاقة وأزمة اقتصادية عملاقة هذا الخريف.
لا شك أن الأكثر فاعلية من بين الإجراءات، لكنها ستضر كذلك بروسيا نفسها، سيكون التوقف المفاجئ عن توريد جميع المواد المهمة من روسيا إلى الغرب، من النيكل والبلاديوم والتيتانيوم وغاز النيون المستخدم في صناعة أشباه الموصلات، إلى الفحم والنفط والغاز.
لكن بوتين فيما يبدو قد اختار مسارا سلسا، لا يمكن تحميل روسيا فيه مسؤولية الأزمة في أوروبا. وفيما يتعلق بالعقوبات التي يفرضها الغرب على خطوط أنابيب الغاز الروسية، تفقد محطات الضخ التي تضخ الغاز إلى أوروبا وظائفها. كما تم بالفعل تخفيض إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر "السيل الشمالي-1" بنسبة 60%. ويجب توقع أن يتم إيقاف جميع المضخات مع مرور الوقت، بما في ذلك المضخات الموجودة في "السيل التركي". وبينما تحافظ شركة "غازبروم" كذلك على العبور عبر أوكرانيا عند مستوى 42 مليون متر مكعب في اليوم، إلا أنني أعتقد أن هذا العبور سيتوقف بحلول الشتاء، بدلا من أن يزداد.
فقد بدأت المعركة من أجل أوروبا، وكفة الميزان الآن في صف روسيا.
من جانبها، استنزفت الولايات المتحدة الأمريكية احتياطياتها من الغاز والنفط منذ بداية الحرب، من أجل خفض أسعار الطاقة وإظهار الدعم لأوروبا، على أمل أن تنهار روسيا أو تستسلم قبل نفاد الاحتياطيات. ولمّا لم يحدث ذلك، لم تصبح الولايات المتحدة مضطرة للبدء في إعادة ملء احتياطياتها من جديد، والتخلي عن أوروبا، وترك الأسعار لترتفع فحسب، بل وجدت نفسها علاوة على ذلك هي الأخرى معرضة للخطر.
على الصعيد الاقتصادي، لم يتبق لدى الولايات المتحدة أي أوراق رابحة تقريبا، لكنها تمتلكها في المجال العسكري. لذلك يمكن لواشنطن توسيع نطاق العمليات العسكرية بمساعدة حلفائها، خاصة رومانيا (في ترانسنيستريا)، وبولندا (في غرب أوكرانيا وبيلاروس)، وكما اتضح في الأيام الأخيرة، ليتوانيا، حيث فرضت الأخيرة حصارا على السكك الحديدية في منطقة كالينينغراد الروسية، وهو ما يتعارض مع التزاماتها والقانون الدولي، ويعد سببا مشروعا للحرب.
ومع هذا، وبالنظر إلى كل ما سبق، أعتقد أن روسيا لن ترد على هذا الاستفزاز عسكريا، ولن يتم حل القضية مع ليتوانيا بشكل منفصل، ولكن كجزء من "المعركة الاقتصادية من أجل أوروبا".
بطريقة أو بأخرى، فسأحرص بشكل خاص في الأسابيع المقبلة على مراقبة تصرفات هذه البلدان الثلاثة وحجم إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف