قراءات في تطور الإعلام: وداع المحطات التليفزيونية.. مسألة وقت
بعد انقطاع طويل قررتُ -بتشجيع الزملاء- العودة للكتابة.
وكوني أمضيت العقد الماضي أعمل في مجال الإعلام الرقمي وتطوير المنتجات والمنصات الرقمية، قررتُ العودة بسلسلة مقالاتٍ أشارك بها ومضاتٍ متفرقةً من قراءة شخصية لواقع وتطور الإعلام الرقمي، وفرص إطلاق المشاريع القائمة على التكنولوجيا.
وخُطتي أن أتحدث في كل مرة عن فرصة أو تحدٍّ أو توجهٍ سيكون له أثر في عالم الإعلام، وريادة الأعمال، وإطلاق الخدمات والمنتجات الرقمية.
شخصيًّا، توقفتُ عن مشاهدة التليفزيون منذ زمن طويل، فنمط الحياة العصري، والتزامات العمل والمنزل، لم تعد تسمح لي -مثل كثيرين- بأن أضبط توقيت أنشطتي بما يتوافق مع جدول برامج المحطات التليفزيونية. وبازدياد جاذبية ومتعة وتكيف منصات المحتوى مع وقتي، وتقديمها المحتوى وفق ما يناسب اهتماماتي، تحوّلتْ شاشة التليفزيون في المنزل لجهاز عرض لمنصات الفيديو من يوتيوب، ونتفليكس، وشاهد، وآبل TV+... إلخ.
ولفترة، بقيت أمي هي المُشاهد الوحيد في المنزل لقنوات التليفزيون التقليدية، فكانت تتابع مجموعة من المسلسلات، وتنتظر حلقاتِها اليومية، وتشاهد بشكل متفرق برامج صباحية.. وقناعتي الشخصية كانت أنه بطبيعة السنّ والبُعد عن التكنولوجيا، وحاجز اللغة، ستحافظ والدتي على نمط استخدامها التليفزيون التقليدي... ولكن من الواضح تمامًا أن الخدمات الجديدة -في حال توفر البنية التقنية اللازمة لتشغيلها- قادرة وبقوة على تغيير أنماط استهلاك المحتوى للجميع دون تمييز.. قد يتأخر التغيير، لكنه قادم لا محالة.
خلال فترات الإغلاق في ذروة جائحة كورونا، لاحظتُ تعلُّق أمي بأحد المسلسلات العربية الطويلة جدًّا -أعتقد أنه كان من عدة مواسم وبإجمالي حلقات يقترب من 120 حلقة- ولاحظتُ تلهُّفها لمعرفة الأحداث.. فعرضتُ عليها أن نتابعه معًا على إحدى منصات البث الرقمية، والتي صدَفَ وجود جميع حلقاته ومواسمه ضمن مكتبتها. وفعلاً، بعد هذه التجربة، اكتشفتْ والدتي خبرة جديدة في متابعة المسلسلات، تشاهد من خلالها مسلسلها المُفضّل، بشكل متتابع، في الوقت الذي تريد، وتوقف العرض، وتعيد مشاهدة لقطات لم تفهمها. بعدها، توقّفتْ والدتي عن مشاهدة عدة مسلسلات في الوقت نفسه، ووجدت متعة جديدة في التركيز على مسلسل واحد فقط، ومشاهدة جميع حلقاته من البداية حتى النهاية بشكل متتابع، لتندمج وتعيش أحداث مسلسلها وشخصياته بشكل مُركّز، بعيدًا عن التشتت والانتظار والانقطاعات.
طبعًا وجودنا في دولة ذات بنية تحتية متطورة جدًّا وعالمية، كان له دور أساسي في تحول الفرد الأخير من العائلة من مشاهدة المحطات التليفزيونية بشكلها التقليدي، ليكون مستخدمًا للمنصات الرقمية.
فلولا وجود بنية الاتصالات المتطورة هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، لكان من المستحيل -تقنيًّا- إجراء هذا التحول الرقمي في نمط المشاهدة.
العامل الثاني الهام، الذي ساعد في الانتقال من استهلاك المحتوى المرئي من شكله التقليدي -عبر مشاهدة المحطات التليفزيونية- إلى الشكل الرقمي، هو توفر المعدات سهلة الاستخدام من تليفزيونات ذكية، أو الأجهزة التي تحول التليفزيونات التقليدية إلى ذكية بكُلفة معقولة.. أجهزةٌ استخدامُها أصبح بعيدًا عن التعقيد، تؤمّن الوصول إلى المحتوى من خلال واجهة مستخدم رسومية سهلة.
ما أود أن أقوله هنا، إن التحول الرقمي في الإعلام لم يعد خِيارًا، هو أمر واقع.. خاصة أن مسألة وصول خدمة الإنترنت السريع إلى المناطق والبلاد، التي لم تصل إليها بعدُ في العالم العربي، هي مسألة وقت، والكثير من العوامل تشير إلى أنه لن يكون وقتًا طويلا.
المنصات الرقمية بدّلت قواعد اللعب التقليدية.. اليوم، الكثير من مفاهيم الإعلام التقليدي، وما كان يُعتبر لفترات طويلة "أفضل الممارسات" و"الخبرات" أصبح شيئًا من الماضي، ولم يعد ينطبق على المشهد الإعلامي المعاصر.. حيث تشهد وبوضوح صناعة الإعلام بأكملها -والتليفزيون جزء منها- تغييرًا جوهريًّا على العديد من الأصعدة، بقيادة تطور التكنولوجيا وسلوكيات وتفضيلات الجمهور.
لم تعد منصات تقديم المحتوى مجرد بوابات لاستهلاك الفيديو عند الطلب، اليوم منصات المحتوى تستثمر في إنتاج المسلسلات والأفلام والوثائقيات والبرامج الخاصة، والتي أثبت العديد منها بجدارة نجاحًا ومنافسة عالمية، وبالتالي فمنصات المحتوى هي الآن في منافسة مباشرة مع صناعة التليفزيون والمحتوى التقليدية.
أدى مفهوم "المشاهدة عند الطلب" إلى تغيير جذري في سلوك الجمهور، ومتطلباته.. إذ يتوقع المُشاهد اليوم الحصول على محتوى ملائم، وجذّابٍ ومُلهِمٍ، يمكن الوصول إليه في أي وقت، ومكان، بما يتناسب مع احتياجاته وتفضيلاته الآنية.
رؤيتي الشخصية أنه سيأتي يوم -ليس بالمستقبل البعيد- نودع فيه المحطات التليفزيونية، بمفهوم البث التقليدي الذي نعرفه اليوم.. وداعًا سيشبه تمامًا وداعنا أشرطة التسجيل، والفيديو، والأقراص المدمجة، CDs، والكثير من الصحف والمجلات الورقية... وداعًا لن يكون حزينًا، لأنه سيترافق مع فتح أبواب جديدة لتقديم تجربة مستخدم جميلة، تنقل المُشاهد لأبعاد وعوالم جديدة، وتجلب معها فُرصًا استثنائية للأعمال والاستثمار.. فرص جديدة سيمتد تأثيرها الإيجابي أيضًا في صناعة المحتوى نفسه.