ليتهم قرؤوا التاريخ
التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن عروقه ممتدة في الحاضر تشكّل بنبضاتها المستقبل.
قد لا نكون قادرين على الربط الدقيق بين الماضي والحاضر والمستقبل لعدم إلمامنا بتفاصيل التاريخ ودقائق مجرياته.. وحين نغوص بعمق في تاريخ أي جماعة بشرية سيكون من السهل فهم الخطوط العريضة لصيرورتها وتطورها، وكذلك التنبؤ بقدر عالٍ من الدقة بمستقبلها.. مع تأكيد أن التاريخ لا يتحكم في مصير الشعوب والأمم، ولا يقدم حتمياتٍ صارمة، ولكنه يساعد على الفهم، ويقدم محدداتٍ عامة لطبائع الشعوب والأمم، ولردود فعلها المتوقعة في المواقف المختلفة.
هذه العَلاقة بين التاريخ والحاضر والمستقبل تحتاج إلى أن يتم فهمها بميزان دقيق، يضع الماضي في موضعه الطبيعي، بصفته مختبر التجربة البشرية لكل مجتمع من المجتمعات، هذه التجربة تصنع الثقافة والعادات والتقاليد، وتشكّل الشخصية القومية.. ومن ثم تحدد المعايير العامة للمقبول والمرفوض، للصحيح وغير الصحيح.. لذلك نجد ما يعتبر مقبولا في بعض المجتمعات يكون مرفوضا في أخرى.
من عدة سنوات اطّلعت على بعض الوثائق التاريخية، التي تتعلق بتاريخ الحكم في أبوظبي، ومنها وثيقة أثارت دهشة طالب العلوم السياسية، الذي ما زال شغوفا بالتعلم داخل عقلي ونفسي.. هذه الوثيقة هي خطاب مؤرّخ بتاريخ 18 أغسطس 1898 أرسله الشيخ زايد بن خليفة "زايد الأول" إلى وكيل المعتمد البريطاني، وحينها كان الشيخ "زايد" قد وقع اتفاقية مع بريطانيا في 5 مارس 1892. ورغم اتفاقية الحماية تلك فقد أرسل الخطاب/الوثيقة الذي نقوم بتحليله في هذا السياق.
في خطاب 18 أغسطس 1898 تناول الشيخ "زايد بن خليفة" مسألة تدخل في صميم أعمال السيادة، التي لم تنتقص منها اتفاقية الحماية السابق الإشارة إليها، حيث تناول موضوع التنقيب عن الحديد في جزيرة "دلما"، مؤكدا أن خام الحديد موجود في هذه الأرض التي تدخل تحت سلطته، وأنه طبقا للاتفاقية مع بريطانيا فإن الرعايا البريطانيين هم أولى بالتعاقد معهم، ولكن إذا لم تكن بريطانيا، أو رعاياها، مهتمين بالتنقيب عن الحديد واستخراجه من جزيرة "دلما" فإنه سوف يتعاقد مع دول أخرى، أو رعايا دول أخرى، لأن كل إنسان حر فيما يملك، وله حق التصرف في كل ما هو تحت يده من أملاك لتحقيق مصالحه ومصالح شعبه، لذلك لا يقبل اعتراض بريطانيا على ذلك، وسوف يقوم بما هو في مصلحته.
تذكرت هذه الوثيقة ورجعت إليها، أعيد قراءتها بعد تلك الضجة الهائلة التي أشعلتها الإدارة الأمريكية بعد قرارات "أوبك+" بخفض الإنتاج النفطي بمليونَي برميل يوميا، وكم "التهديدات" التي أطلقتها تلك الإدارة تجاه الدول الرئيسية الفاعلة في المنظمة. فقد كانت هذه الضجة وما صاحبها نابعة من عدم استيعاب حقيقي للتاريخ، فلو قرؤوا التاريخ القريب أو البعيد لما أدخلوا أنفسهم في حرج شديد.
كذلك كانت تلك التهديدات معبرة عن حالة من الاستعلاء الاستعماري، الذي يتعامل مع الموارد الطبيعية في أي بقعة في العالم وكأنها ملك للعالم الغربي، وليست ملكا لدولها ومجتمعاتها، ويتعامل مع دول العالم غير الغربي بصورة تفتقد إلى العدل وصواب الرؤية، بل وتفتقد إلى المنطق، فلم يطلب أحد من دول العالم تحديد سقف لأسعار القمح الذي تنتجه دول الشمال، ولا تحديد سقف لأسعار الأدوية والمعدات الطبية، ولا تحديد سقف لأسعار أي سلعة ضرورية تستوردها الدول غير الغربية من الدول الغربية.
هذه الحالة غير العادلة تستدعي خطابا من الشيخ "زايد الأول" كتبه حفيده "ابن زايد الثاني"، وقد حدث ووصلت الرسالة وتم تسلمها بتوقيع "البيت الأبيض".