حسابات تركيا في سوريا
يسابق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الزمن لترتيب علاقات بلاده مع سوريا، قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة صيف العام المقبل.
وأردوغان في مسعاه هذا يعمل على مستويين، الأول، محاولة فتح صفحة جديدة مع دمشق، عبر ترتيب لقاء مع نظيره السوري، بشار الأسد، برعاية روسية، لطوي صفحة عقد من الصدام بينهما. والثاني، التهديد بشن عملية عسكرية برية في شمال شرقي سوريا، ما لم تتم الاستجابة لشروطه: وهي شروط تتلخص بإقامة منطقة أمنية بعمق 32 كيلومترا داخل الأراضي السورية، والقضاء على تجربة الإدارة الذاتية هناك عبر طرد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من المنطقة الحدودية، وإسكان اللاجئين السوريين في تركيا هناك.
والرئيس التركي هو في كل ذلك يراهن على الدور المتعاظم لبلاده في الأزمة الأوكرانية، وعلاقته الجيدة بالرئيس بوتين، وعلاقات بلاده المتينة مع الولايات المتحدة في إطار عضويتهما في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، رغم الخلاف بينهما بشأن الدعم الأمريكي لأكراد سوريا واليونان.
حسابات الرئيس أردوغان هذه، قد تتوافق بهذه الدرجة أو تلك، أو تتعارض بهذه الدرجة أو تلك، مع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، فالثابت أن روسيا تسعى بقوة إلى مصالحة تركية - سورية تؤسس لحل الأزمة السورية في إطار رؤية أستانا – سوتشي، فيما لا تحبذ خيار العملية العسكرية البرية التركية، وتفضل حل هذه المعضلة من خلال عودة البلدين إلى اتفاقية أضنه عام 1998 حتى لو كانت بصيغة معدلة، على أن يترافق ذلك مع رعاية روسية لمصالحة منشودة بين دمشق والأكراد.
في المقابل ترفض الولايات المتحدة الأمريكية أي عملية عسكرية برية تركية تؤدي إلى القضاء على حليفتها قسد، معللة ذلك بأن مثل هذا الأمر سيؤثر على حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي، وسياستها في سوريا، كما أنها ترى في المصالحة التركية - السورية المنشودة تقويض لمسار جنيف لحل الأزمة السورية، رغم أنها لا تبدي في العلن معارضة واضحة لمسار التقارب الجاري بين تركيا وسوريا، بل ربما يرى البعض أن هذا المسار هو مكمل للتقارب العربي الحاصل تجاه دمشق.
أمام هذه الحسابات للدول المعنية بالأزمة السورية، تتريث تركيا في القيام بمغامرة عسكرية قد تؤدي إلى توتر مع هذه الدول، وتنسف ما تعتقد بوجود فرصة تاريخية لتعزيز أوراقها كي تكون قوة إقليمية مؤثرة بين الشرق والغرب، وتتحول إلى المركز الأساسي للغاز القادم من روسيا وآسيا الوسطى، ومن ثم نقلها إلى أوروبا عبر المتوسط، فضلا عن التطلع إلى أن تكون مركزا للاستثمارات الغربية، مستفيدة من رفع أسعار الطاقة، بما يؤدي كل ذلك إلى خروجها من أزمتها الاقتصادية على وقع التراجع الكبير لقيمة الليرة التركية أمام الدولار، وعليه تحرص تركيا حتى النهاية على المفاوضات مع الجانبين الروسي والأمريكي بشأن سياستها الجديدة تجاه الأزمة السورية، ولعل هذا ما يفسر تأجيلها لعمليتها العسكرية البرية، وربطها بنتائج هذه المفاوضات، خاصة أنها تعتقد أن توقيت العملية قد يكون أنسب في الربيع المقبل حسب محللين أتراك، على اعتبار أن هذا التوقيت سيسبق بوقت قليل موعد الانتخابات، وهو ما يعني ضمان الاستفادة من نتائجها في الصندوق الانتخابي، فيما الوقت كفيل بنسف أو نسيان هذه النتائج أن تمت العملية في الوقت الحالي.
دمشق التي تتصرف بهدوء حذر إزاء المسعى التركي هذا، رغم أن اللقاءات الأمنية الرفيعة المستوى بين الجانبين مستمرة، تجد أن حساباتها قد لا تتوافق مع حسابات تركيا وروسيا وإيران على الرغم من قناعتها بأهمية الحل مع تركيا، خاصة أن هذا الحل يتضمن التطلع المشترك لوضع نهاية للإدارة الذاتية الكردية في شرقي البلاد.
لكن دمشق التي عاشت في السابق علاقة حب مع أردوغان لم تعد تثق كثيرا به، وتخشى من انقلاباته الكثيرة، لذلك تربط أي مصالحة بتحقيق شروط قد لا تستطيع تركيا الالتزام بها، لعل أهمها الانسحاب من الأراضي السورية التي تسيطر عليها، ووقف الدعم عن الجماعات السورية المسلحة والإرهابية في الشمال السوري.
وعليه تتريث في مد البساط للمصالحة على شكل انتظار لمعرفة من سيحكم تركيا بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة كي تحدد قرارها النهائي، ولعل مشكلة دمشق هنا، أنها تجد نفسها أمام رغبة ملحة من الحليف الروسي الذي تقوم حساباته على مصالحة سريعة تصب لصالح بقاء الرئيس أردوغان في الحكم، خاصة أنه أثبت إنه قادر على اتخاذ قرارات حاسمة في حسابات الصراع بين موسكو وواشنطن.
وترى روسيا أن أي بديل لأردوغان من المعارضة سيكون من المحسوبين على السياسة الأمريكية في مواجهة السياسة الأوراسية، وهو مسعى يتوافق مع سياسة إيران التي تقاربت كثيرا مع روسيا على وقع الأزمة الأوكرانية، وتعثر مفاوضات ملفها النووي.
وهكذا يمكن القول إن روسيا وإيران أصبحتا معنيتين مباشرة بنتائج الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة، وعليه تعملان على دفع دمشق للانخراط في مسار المصالحة مع أنقرة في إطار معادلة الصراع مع الولايات المتحدة، ولعل هذا ما يفسر اصرار الرئيس أردوغان على طرق باب دمشق على أمل دفعها للتخلي عن التريث، وعقد لقاء قمة ينتظره بفارغ الصبر، خاصة إنه يعتقد أن هذا اللقاء سيكون كفيلا بإزاحة الملف السوري عن كاهله في الداخل بعد أن رفعته المعارضة شعارا ضده، وحملته مسؤولية الأعباء الناتجة عنه بعد أن تحول إلى محدد في خيارات الناخب التركي.