السياسات العمومية التربوية
السياسات العمومية التربوية، يمكن أن نلمس خصائص السياسة الحكومية، أو سياسة الدولة في مجال التعليم في التصريحات الحكومية، والوثائق والبرامج السياسية للأحزاب المشكلة لها، غير أن وجودها أو عدمه لا يعني أنه ليست هناك سياسة تعليمية محددة وموجهة يجري تنفيذها بدون كلل، وبالدقة المطلوبة، وحسب إيقاعات زمنية تفرضها الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد لا يتم الإعلان عن النوايا الحقيقية والتوجهات الفعلية للسياسة التعليمية ببلد ما، بل إن هذه السياسة قد تكون غير معلنة نظرا لطبيعة ارتباطها (مثلا) بإملاءات صندوق النقد الدولي، أو يتم الإعلان عن توجهاتها بشكل تمويهي يخفي مراميها وأهدافها الحقيقية.
يحدَّد النظام التربوي العلاقات والقيم التي ينبغي تأسيسها واستنباتها، أو المحافظة عليها. ويتميز بتفاعله مع عدد كبير من الأنظمة المترابطة والمتناسقة التي تندرج تحته حسب البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع. ويشكل النظام التعليمي واحدا من هذه الأنظمة التحتية في النظام التربوي الذي يكون تابعا بدوره للسلطة السياسية: سلطة القانون، وسلطة التنظيم، وسلطة الإعلام، ومجموع القيم الدينية والاجتماعية التي توجه إلى التنشئة. وتسمح هذه التبعية بفهم خصائص السياسة التعليمية التي يجري تنفيذها أو تحضيرها من داخل أنساق الممارسة السياسية للطبقة الحاكمة، وليس من داخل الممارسة التعليمية بصفة خاصة.
ستعرض، هذه الورقة، نموذجين من السياسة التربوية في المغرب: نموذج التعليم الخصوصي، ونموذج هيئة التفتيش التربوي.
- التعليم الخصوصي في المغرب ومنطق الربح:
إن خوصصة التعليم في المغرب تكرّسُ عدم المساواة لأن التعليم الخصوصي شبه منعدم في المناطق الفقيرة مما يزيدُ من الفروقات بين الطبقات الاجتماعية حيث إن 1538 جماعة مغربية تشمل حوالي 270 فقط من التعليم الخصوصي بنسبة تغطية عامة تصل إلى 17.6 بالمائة(1).
ولا يهم من أمر هذه الأرقام سوى نسبة فرص أطفال المناطق القروية في التحصيل الدراسي في المغرب؛ وهكذا يتحمل السياسيون مسؤولية هذا التفاوت بسبب قصورهم في الدفاع عن المدرسة العمومية، وعدم اهتمام أصحاب القرار باتخاذ تدابير تحسّن وضعية هذه المدارس ورفع قيمة وجودة التعليم بها وسن قوانين وإجراءات خاصة للحد من انتشار التعليم الخصوصي.
شهد التعليم الخصوصي في المغرب في السنوات الأخيرة إقبالا متزايدا من قبل الأسر المغربية وارتفاعا ملفتا للنظر في العرض رغم تكلفته التي ترهق جيوب آباء أولياء الأمور من حيث الواجب الشهري ومتطلبات الدراسة، لأنهم يعتبرون التعليم الخصوصي بديلا أنسب لضمان “تعليم جيد”(2) للأبناء عبر الانضباط في الوقت وتوفير شروط ملائمة لتعليم يواكب متطلبات العصر ومنفتح على أنماط جديدة ومتنوعة تسهم في تطوير ملكاتهم.
إن الحصة الإجمالية الدولية للتعليم الخصوصي، ووفق معطيات المجلس الأعلى للتعليم بالمغرب، ارتفعت لدى المغاربة مقارنة بالسنوات العشر الماضية، بعد اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
تدهورت المدرسة العمومية إذن بسبب إكراهات كثيرة بعدما كانت في كامل عطائها وخصوبة مردوديتها؛ وكان النظام الدراسي الصارم يُراكم مصداقية التعامل مع المتعلمين؛ ثم تأسست الجودة التي تفرق بين المؤهلين الناجحين والراسبين المفصولين؛ لكن الضربات المتتالية التي تلقتها المدرسة العمومية، عمقت الهوة بين المؤهلين الذين قلت أعدادهم مقارنة بالنتائج السابقة والمفصولين الذين تزايدت أعدادهم كثيرة؛ ومن هنا جاءت البوادر الأولى لظهور التعليم الخصوصي/ الخاص (الذي حمل من قبل عدة تسميات أبرزها التعليم الحر “والمدرسة الحرة”)، ليستوعب هذه الأعداد المطرودة من التعليم العمومي مقابل رسوم شهرية.
انتقل تراخي المدرسة العمومية التي أصيبت بالتدهور وتصريف عدد لا يُستهان به من المطرودين إلى تراخي المدرسة الخصوصية ذات البعد التجاري الذي كان يحكم إجراءات الانتماءات إليها، فكان تراخيا من نوع آخر تبعا لنتائج تقويمات المتعلمين: نسب النجاح البارزة، وعدم وجود حالات التكرار، وأحيانا التصرف الفج والمطلق في الكتاب المدرسي الرسمي … الخ.
فإذا كان التعليم الخصوصي يعمل بشعار “الكل ناجح، ولو على حساب مستوى المتعلم”، فإن مرد ذلك إلى سلبيات كثيرة تحولت في نظر المتعلمين الفاشلين إلى فرص حقيقية للنجاح في الحياة خصوصا في المجتمعات التي تعادي الكفاءات؛ وعمل كل هذا بشكل قوي على استقطاب أعداد غفيرة منهم ما دام هذا اللون من التعليم لا يتعامل مع الرسوب مطلقا.
ستكون النتيجة الحتمية لهذا الاستقطاب أن سيتضاعف عدد تجار هذا التعليم وسيتضاعف جشعهم باستغلال موجة الاضطرابات المتتالية التي عرفها التعليم العمومي والهزات التي جعلته متخلفا عن الركب؛ وهكذا تحول التعليم الخصوصي بدوره إلى تعليم متخلف بمواصفات التعليم العمومي؛ فقد تزايد تخوف الأسر على المصير الدراسي لأبنائهم، وكان له وقعه الكبير على البنية التحتية للتعليم الخصوصي مما أثر في: قدرته الاستيعابية التي تتسم بحشد متعلمين كثر في قاعات لا تتحملهم حيث يتجاوز معدلها أحيانا 45 متعلما في الحجرة الواحدة، ووجود بنايات وفضاءات غير مؤهلة تماما مثل غياب الملاعب الرياضية، ونقص عامل التهوية، وتعاقد المؤسسة مع مدرس ضعيف المستوى الدراسي أو التكويني… الخ..
إن التعليم الخصوصي هو مقاولات أنشأها أصحابها من أجل الربح مع حرصها على توفير تكوين جيد يجلب لها الزبناء. كيف ذلك؟
خضعت الدولة المغربية منذ عقود ماضية لتقارير صندوق النقد الدولي التي تُسائل بعض القطاعات العمومية التي تستوجب توفير موارد مالية ضخمة؛ وهكذا رضخ المغرب لمقررات سياسة التقويم الهيكلي، وسلوك سياسة التقشف بترشيد النفقات منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي(3) .
ولقد كان من بين القطاعات العمومية الحساسة التي مسها قرار محاولة إلغاء مجانيتها، قطاع التعليم العمومي، إذ تقرر الإبقاء على إلزامية التعليم الابتدائي ومجانيته (التعليم الأساسي) تفاديا لخرق روح مقتضيات الفصل 32 من دستور 2011، في حين تقرر إلغاء مجانية التعليم الإعدادي والثانوي والجامعي، وهو القرار الذي قوبل بالرفض أحيانا، وبالتحفظ أحيانا أخرى، تماشيا مع تضارب مصالح كل فئة اجتماعية بالمغرب(4).
إلا أنه تبين أن المستفيد الرئيس من إلغاء مجانية التعليم، هي مؤسسات التعليم الخصوصي بكل مستوياته (الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي أو العالي)، إذ شكلت بداية الألفية الثالثة منعطفا جديدا في تاريخ السياسة التعليمية بالمغرب حيث إن ميثاق التربية والتكوين مهد الأرضية الملائمة لسياسة تعليمية تهدف إلى إخضاع التعليم المغربي لمنطق السوق بتسليعه وخوصصته، وضرب الاستقرار الوظيفي، وهو ما يُعرف بمرحلة بداية انفتاح مباشر على الدخول القوي للرأسمال المحلي والأجنبي إلى عالم المعرفة والتكوين العلمي.
وقد استغلت مؤسسات التعليم الخصوصي تردي مردودية التعليم العمومي لسنوات خلت بسبب فشل المقررات التعليمية، لتضع نفسها (مؤسسات التعليم الخصوصي) موضع منقذ التعليم بالمغرب تحت ذريعة أنها شريك أساس في منظومة تعمل على إخراج التعليم، ومن خلاله الأجيال المتمدرسة، من تبعات فشل التعليم العمومي، وهو ما جعلها تستفيد من امتيازات قانونية وأخرى جبائية ذات أهمية كبرى، وتتمتع بها بشكل مريب (من وجهة النظر القانونية) مقاولات تجارية ربحية، تمارس مهامها بناء على وضعية قانونية وجبائية هجينة.
وهكذا تجرأت أغلب مؤسسات التعليم الخصوصي – مع استثناء بعضها – خلال شهر مارس من سنة 2020، على رسالة/ طلب التعويض لتضررها من إغلاقها الاضطراري، استجابة لتعليمات الحكومة بتطبيق الحجر الصحي بكل ربوع المملكة، على أن يكون التعويض عن الضرر غير المثبت مرصود من الأموال التي ضخها أفراد ومؤسسات عمومية وخاصة بالصندوق المخصص للتصدي لفيروس (كوفيد-19)، وكذا مطالبتها لأولياء أمر التلاميذ بأداء واجبات التمدرس، كحق لم يقابله أي واجب يذكر في سبيل مواصلة التعليم عن بعد، تفاديا لهدر مدرسي اضطراري ناتج عن وجود طارئ ناشئ عن تفشي وباء (فيروس كورونا) بالمغرب.
ثم وجهت الهيآت التمثيلية لمؤسسات التعليم والتكوين الخاص رسالة مراجعة وتصحيح إلى السيد رئيس الحكومة حول التداعيات المحتملة لجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) على القطاع إلى الرأي العام الوطني بتوضيحات لرفع حرج الضغوطات المستنكرة، تقول الرسالة:
نأسف لما خلفته هذه الرسالة من استياء لدى مجموعة من المتتبعين للشأن التربوي خاصة، والشأن الوطني عامة.
نلفت الانتباه إلى أن الرسالة الموجهة للسيد رئيس الحكومة لم تتضمن أي طلب باستفادة المستثمرين أو مالكي المؤسسات التعليمية من صندوق تدبير جائحة فيروس كورونا، وإنما جاء الطلب مرتبطا بدعم بعض مستخدمي القطاع، في حالة عجز بعض المؤسسات عن صرف رواتب الأساتذة والمستخدمين كلا أو جزءا، في حالة تمديد فترة التوقف عن الدراسة وما قد يرافقها من عجز آباء وأولياء التلاميذ المتضررين من الأزمة عن أداء تكاليف دراسة الأبناء؛ وهو وضع لا نريده ولا نتمناه.
نوضح أن علاقة المستثمرين بالقطاع بالصندوق، هي نفس علاقة عدد من رجال الأعمال الوطنيين الذين عبروا عن استعدادهم للتبرع لفائدة الصندوق، قياما بالواجب الوطني. وقد جاءت تبرعات العديد من المؤسسات التعليمية الخاصة استجابة للنداء الموجه سلفا من طرف الرابطة لكافة أرباب المؤسسات التعليمية الخصوصية للانخراط التضامني بمساهمات مفتوحة في تمويل الصندوق الخاص لمواجهة جائحة كورونا مع وضع فضاءات المؤسسات رهن إشارة السلطات المعنية عند الحاجة، وسنوافيكم بتفاصيل حجم التبرعات التي قدمتها مؤسسات القطاع فور استكمالنا لجميع تفاصيلها.
نذكر بحق العاملين بالقطاع الذين يزيد عددهم عن 140 ألف أجير من الاستفادة من أي نظام لدعم الفئات الهشة المهددة في مصادر رزقها باعتبارهم مواطنين مغاربة لهم على الدولة والمجتمع نفس حقوق غيرهم من الشغيلة المغربية، ومن زملائهم العاملين بالمدرسة العمومية.
تختلف مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي من حيت الحجم والبنية والموقع الجغرافي ومن حيت إمكاناتها المالية في مواجهة مثل هذه الأزمات.
وضعية مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي لا تختلف عن وضعيات باقي القطاعات الخدماتية في مقاومة الاختلالات المالية. ولا نية لها في تبني تسريح شغيلتها لحل أزمتها.
وإننا إذ نؤكد، للرأي العام الوطني، حسن نيتنا لتجاوز الفهم الخاطئ لرسالتنا، نجدد حرصنا على بقائنا دوما رهن إشارة وطننا لدعم كل الجهود المبذولة من طرف الدولة والمجتمع للحفاظ على سلامة مواطنينا ومناعة أمتنا، مسترشدين بتوجيهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، ومستلهمين قيم الوطنية الصادقة والمواطنة الحقة. من ثقافة تاريخنا العريق.
- هيئة المراقبة التربوية: هيئة إدارية أم تأطير تربوي؟
لا نجد لمفهوم التأطير تدقيقا في الوثائق الرسمية؛ وقد يكون مصاحبة نظرية وميدانية بغرض تحقيق الأهداف المسطرة(5)؛ ويُعرفه العلماء التربويون بأنّه تحريك وتحديد لمسار المُعلمين باستخدام ذكاء الطلاب(6).؛ ويمكن حصر عمل التأطير التربوي كما أشارت إليه المذكرة 86 في تنشيط العمل التربوي “بإنجاز الدروس النموذجية والندوات لفتح المجال أمام الأساتذة لتبادل وجهات النظر في الوسائل التربوية والطرق التعليمية لرفع مستوى التعليم وتحسين المردودية” وفي التكوين التربوي الذي ربطته “بالأساتذة المبتدئين والمتدربين وتدليل الصعوبات التي قد تواجههم في البداية، على أساس أن تخصص لهم أيضا ندوات ودروس نموذجية”؛ وبهذا تكون مهمة التأطير والإشراف هي مهمة مرتبطة بالتكوين والمواكبة لهيئة التدريس (زيارات فصلية وندوات ودروس نموذجية) من أجل تطوير أدائها المهني.
وتحمل مهمة “المراقبة التربوية” دلالة “قيام المفتش التربوي بزيارات فصلية، وإعداد تقارير تضم تقويم أداء المدرسين […] (7) “؛ إذن تغطي المراقبة التربوية مجال تقييم مدى انضباط الأساتذة بتدريس البرامج المقررة حسب كل تخصص، ومدى اتباع التوجيهات والتوصيات المنبثقة عن “الإشراف والتأطير” خلال الندوات التربوية أو الدروس “النموذجية”، أو خلال الزيارات المنجزة سابقا؛ كما أن مهمة “المراقبة التربوية ” هي أيضا مرتبطة بمدى انضباط الإدارة والأساتذة لمضمون المذكرات الصادرة عن الوزارة والتوجيهات الرسمية في توزيع جداول الحصص وتتبع إيقاعات التعلم واستعمال الكتب المدرسية والوسائل التعليمية، وتنظيم الامتحانات وتتبع إنجازها وتقويمها(8) ؛ فإذا كان التأطير التربوي يتماهى مع الأدبيات التربوية التي تنتهي بالإسهام في تقدم المنظومة بمناهجها وبطرق تدريسها وبمضامين المقررات تربويا، فإن المراقبة التربوية تنزع إلى تفعيل الجانب الإداري.
بعد إحداث الأكاديميات سنة 1987 وإصدار المذكرة 80 سنة 1989 التي جعلت تواصل هيئة التفتيش تخضع لسلطة المسؤول الإقليمي، ضاعت حلقة سلطة الاستقلالية الوظيفية التي كانت تسمح للمفتش بتقديم صورة تشخيصية للواقع التعليمي دون أن تكون للإدارة وللمكتبية الإقليمية أثر على مضمون التقارير. وعندما فُقِدت هذه الحلقة أصبحت الإدارة المركزية (عن وعي أو بدونه) تركز وتهتم بالإجراءات الإدارية على حساب العملية التربوية التعليمية داخل الأقسام (وما وُجدت الإدارة إلا لخدمة هذه العملية).
ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين مصطلح الإشراف التربوي في نعته لهذه الفئة كبديل اصطلاحي لمفهوم التفتيش : (تقوم السلطة الوطنية […] بإعادة هيكلة هيئة المشرفين التربويين ) المادة 135 / ب، وفيما بعد جاءت وثيقة الإصلاح الموالية المعنونة بالرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/2030 فتراجع المشرع التربوي عن مصطلح الإشراف وأعاد تسمية الهيئة ب ( هيئات التفتيش والتخطيط والتوجيه والتدبير …) المادة 47 وهو نفسه المصطلح الذي أعيد استعماله في مشروع قانون الإطار 17-51 الذي ورد فيه ( علاوة على الشروط النظامية المطلوبة لولوج مهن التدريس والتكوين والتاطير والتفتيش بالقطاع العام …..) المادة 38.
إن كلمة التفتيش، هي كلمة مستعارة في المجال التربوي وهي دالة على الاستعمال الإداري وليس التربوي، وتحمل معاني الاستعلاء وتلمس الأخطاء والالتفات إلى الجوانب الشكلية في العملية التربوية دون النفوذ إلى أعماقها؛ ولقد ذهبت بعض الأنظمة التربوية إلى استبدالها بألفاظ ومصطلحات أخرى، منها: الإشراف التربوي. إن هذا اللبس وهذا التعدد الاصطلاحي في نعث هذه الفئة بالتفتيش مرة وبالإشراف مرة أخرى يبين الغموض الذي يلف ممارسة هذه الفئة؛ فهل هو جهاز إداري للمراقبة والمحاسبة على التقصير في أداء الواجب أم هو هيئة تربوية متخصصة ومضطلعة بمهام كفايات تطوير المناهج والبحث التربوي وطرائق التدريس والتتبع التربوي للممارسات الصفية والتأطير والتقويم والتكوين وتنمية الكفايات المهنية للمدرسين … ؛ هل مهمة المفتش هي ضبط حالات التلبس في أثناء التقصير في المهام وتفتيش المدرسين والمتهاونين منهم وتعبئة وتنقيط بطاقة الترقية أم مهمته هو التأطير والمراقبة التربوية بالفصول الدراسية وتطوير مناهج وبرامج ومنهجيات التكوين وملاءمتها مع المستجدات التربوية الحديثة؟ لذا حان الوقت لإزالة الالتباس والغموض الذي يلف الممارسة التفتيشية ارتباطا بضبابية وعمومية الخطاب التشريعي ثم الفراغ والنقص القانوني والمؤسسي الذي ينظم هذه الهيئة. ولقد ثم إصدار مذكرات تنظيمية عديدة لتعمل على الإرساء التدريجي لهيكلة التفتيش في مختلف المجالات حتى تتناسب مع الوضعية المهنية والممارسات التفتيشية الحالية على جميع المستويات؛ إلا أنها بقيت مهملة وغير مفعلة.
إن هوية المشرف التربوي أو المفتش تتمثل وفق ما جاء في المذكرات والوثائق التنظيمية في مراقبة وضبط الفعل التعلمي والتواصلي والديداكتيكي بالفصل الدراسي لأجل الرفع من مستوى تعلمات التلاميذ ومن نتائجهم الدراسية موازاة مع الالتزام بتطبيق التوجيهات التربوية والأطر المرجعية إضافة إلى مهام أخرى مسندة إليه بمذكرات أو تكليفات إقليمية وجهوية ومركزية؛ وتحمل هذه المذكرات والوثائق بين طياتها إشكالات قانونية وتشريعية تزيد الوضع غموضا وإشكالا، ولا ترسم حدود الوظيفة الأساس للهيئة ولا طبيعة العلاقات التي تحكم هذه الهيئة مع مختلف مكونات المنظومة التربوية خصوصا مع الإدارات التربوية المحلية والإقليمية والجهوية والمركزية؛ فأين مكانه ودوره في مجالس التدبير؟ مجالس الأقسام؟ المجالس التعليمية؟ ما هو التحديد الدقيق لمهام مفتش المنطقة التربوية ومهام المنسق الجهوي للمادة أو المجال تم تباعا مهام المنسق المركزي التخصصي؛ فلكل واحد منهم مهام رئيسة وأخرى طارئة تأتي تحت ضغط الأوامر أو الحاجة أو الطوارئ فيتحركون في إطار لجن البحث والتقصي أو الزيارات الميدانية أو التكوين والتكوين المستمر أو الإشراف على مراكز الامتحانات؛ إنها مهام وعمليات وإجراءات عديدة ومتنوعة تحتاج إلى كفايات إدارية وكفايات العلاقات العامة وكفايات التعامل مع الجماعات مما سينعكس سلبا على الاهتمام المباشر بالتخصص (المادة – الفصل الدراسي – المناهج – التقويم – طرق التدريس …). إن المهمة أو المهام المحددة للمشرف التربوي يجب أن لا تبقى رهينة الأسلوب الإداري العقيم (المفتش تحت تصرف الإدارة لخدمتها بتخويف من خرج عن عصا الطاعة، أو المفتش رجل المطافئ، أو المفتش الشرطي الإداري الذي يحرر التقارير لإرسالها إلى من يهمهم الأمر …)؛ إذن، لابد من تحديد مهمة المشرف التربوي على أساس أن لا ترتبط بتكليفات أو انتدابات طارئة أو محدودة في الزمان والمكان، وأن لا ترتبط بمهام لا تخدم مجاله واختصاصاته.
يجب وضع إطار يحدد هوية المشرف التربوية ومهمته أو مهامه، ويكون واضح المعالم قانونيا ومهنيا ووظيفيا مع توفير شروط العمل المادية والمهنية حتى يمارس هذا الكائن التربوي دوره الاستراتيجي لإصلاح المنظومة التربوية؛ ولقد جاءت محاولات عديدة لتأهيل الموارد البشرية ضمن ديناميكية الإصلاح أقرها الميثاق الوطني للتربية والتكوين من قبل، ثم الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015 / 2030 وأخيرا مشروع قانون الإطار رقم 17/51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛ وكل هذه الوثائق الإصلاحية تشير إلى الدور الهام الذي تقوم به هذه الفئة في الرفع من المردودية والنجاعة الداخلية لمؤسسات التربية والتكوين وفي التأطير المباشر للأساتذة للرفع من قدراتهم المهنية … (الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/ 2030 – المادة 47)؛ ولتأهيل هذه الفئة حتى تأخذ موقعها المتميز في النظام التربوي وتؤدي مهامها بكل ما تستلزمه من أرضية معرفية متينة وتكوين بيداغوجي ملائم، قام المجلس الأعلى للتعليم من جهته بدراسة تشخيصية سنة 2009 في صيغة تحليل للنصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالتفتيش التربوي.
يرتبط المشرف، في تطوير العملية التربوية، بقدرته على الإسهام في إحداث التغير المطلوب الذي ليس هدفا بل مهمة يسعى من خلالها إلى دفع المدرسين إلى إحداث التغير؛ فهو لا يفرض التغيير وإنما يسهله عن طريق تهيئة المدرسين وضمان تفاعلهم وتأييدهم وقيامهم بالجهد المطلوب، ويخطط المشرف التربوي لجعل المدرسين يلتزمون التزاما ذاتيا بالتفاعل مع التغيير. ويتم هذا التغيير بإثارة وتحفيز المدرسين للعمل عبر ممارسة سلوك تشاركي يسمح باتخاذ القرارات المهنية الخاصة بأعمالهم؛ ومن الشروط التي تخلق التطوير والتغيير : عدم تدخل المشرف المباشر وشعور المدرسين بتضحيته وخدماته واحترامه … الخ.
- مناقشة:
إن متأمل نموذج التعليم الخصوصي ونموذج هيئة التفتيش المقترحين أعلاه، سيلاحظ كيف أن استحداث التعليم الخصوصي جاء من خلال توصيات صندوق النقد الدولي خصوصا وتنامي الرأسمالية عموما، بينما جاء قانون هيئة التفتيش ليعمق التضارب الحاصل بين المهام الإدارية والمهام التربوية؛ فالسياسة التعليمية عموما لا تتبنى أفكارا صافية وإيجابية، بل خضعت لضغوطات غير تربوية.
بعد نهاية الحرب الباردة، صارت الطريق معبدة أمام منظري الليبرالية والليبرالية الجديدة، للتنظير للسياسة التربوية بما يحقق أهداف الرأسمالية. بالنسبة إلى العالم العربي والدول المتخلفة، كانت السياسة التعليمية تعمل جاهدة على إيجاد حل للمفارقة التالية: كيف يمكن تذويب التناقض بين البنية السياسية، وبين الطابع التنويري للمدرسة؟ فوقع الاختيار على إلغاء الطابع التنويري للمدرسة وتحييد تأثيرها، وجعل مخرجاتها تتلاءم مع الوضع السائد دون تأهيل البنية السياسية. وعملت البنية السياسية في هذه البلدان على الاهتمام بسؤال آخر: كيف يمكن الحفاظ على حد أدنى فقط من التعليم ( المحافظة على نسب مرتفعة من الأمية لتحقيق التوازن) وعلى أدنى مستوى ممكن من التنوير والتثقيف؟ وهكذا تكرس تعليم غير نقدي وغير ذي فعالية عزل نفسه عن التناقض بين البنية السياسية التقليدية وبين متطلبات التنمية الحقيقية.
إن ملامح التوجه الليبرالي في السياسة التعليمية للعالم العربي والدول المتخلفة، ليس فقط وليدة اليوم، أو ما يجري التنصيص عليه في الإصلاحات والقوانين، بل هو قديم، ويكفي قراءة الخلفيات والمرجعيات التي تعتمدها هذه الإصلاحات والقوانين. والدول سائرة في طريق رفع يدها عن التعليم، وتفويض أجزاء منه للقطاع الخاص، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر وكذلك عن طريق فرض مساهمة الأسر في تعليم أبنائها سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عبر الساعات الإضافية، أو فرض التعليم الخصوصي فرضا.
إذن، الفاعل المركزي الوحيد في السياسة التعليمية هو الطبقات الحاكمة، بعد إقصاء التعليم من دائرة التداول السياسي، وهو أمر ستكون له تداعيات سلبية على المدى المنظور؛ فالتعليم يجب أن يكون ويظل في صدارة اهتمام الجميع لأن من شأن ذلك تحقيق نوع من التوازن في هذه السياسات واستحضار المطامح الشعبية في تعليم شعبي وديمقراطي، من أجل إعادة الاعتبار لوظائف المدرسة التثقيفية والتنويرية… الخ؛ فالإصلاحات تسير من سيء إلى أسوء حيث يحضر فيها الفشل بشكل كبير بعيدا عن المخططات التنموية؛ ونجمل بعض السلبيات في ما يلي:
- تغير السياسة التعليمية من مسؤول إلى آخر، وكأن الدول ليست لها سياسة تربوية علمية وعقلانية لإصلاح منظومة التربية والتكوين؛
- ربط الجانب الإيديولوجي بالسياسة تربوية الذي تعبر عنه المناهج المدرسية المتبعة في بعض المواد وخاصة في الإنسانيات والاجتماعيات؛
- عزل التعليم عن حاجات المجتمع والسوق، وعدم إسهامه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعبر عن ضعف الدول والمجتمعات العربية المتخلفة؛
- قتل روح المبادرة بتهميش الكفاءات، وعدم تشجيعها؛ واعتبار التعليم يثقل كاهل الدول مما يستدعي ترشيد النفقات (سياسة التقشف)؛
- الانشغال بالأرقام فقط لأن الملاحظات نفسها تتردد دائما في مختلف التقارير مع مر السنوات كأن الظروف لا تعرف التطور أبدا.
- تشجيع التعليم الخصوصي بما يخدم مصالح الطبقات المتوسطة، وتفكيك التعليم العمومي.
يتوجب على الفئة التي تصدر القرار السياسي التربوي ألا تمس بحقوق أجيال من زبناء المدرسة، لذلك فإن القرار التربوي يدور في فلك تنفيذ أو تعطيل أو توقيف السياسة العمومية في مجال التعليم. وتُصنف القرارات التعليمية وفقا لسياسات التعليم الرئيسة، وفي ضوء التوجهات المستقبلية للتعليم، ووفقا للحاجيات والمشكلات التعليمية، وكذا التغيرات الرئيسة في هيكل التعليم ومستوياته، أو قد تصنف وفقا لتنفيذ المهام المرتبطة بالقدرات الاستراتيجية والتكتيكية.
خاتمة:
حذر مفكرون من خطورة السياسة التعليمية الحالية التي تعمل على طمس اللغات الوطنية للأجيال الناشئة، والقضاء على لغة التخاطب القومية، وترسيخ اللغات الأجنبية في الإدارات والمصالح العمومية والخصوصية بالدول التي تدعي الاستقلال؛ فالشعوب العربية لا تريد، بعد تحررها واستقلالها، أن تظل مربوطة بعجلة دولة أجنبية أخرى، وهو لا يتعارض، بحال من الأحوال، مع التعامل مع هذه الدول أو دراسة اللغات الأجنبية الحية كلغات، ولا يتناقض مع الرغبة الكلية في التفتح على حضارة القرن العشرين.
الهوامش:
[1]- يتم الاعتماد على مؤشرين رئيسيين (مؤشر متوسط سنوات التمدرس ومؤشر جيني للتربية) يتجاوزان المؤشرات النسقية المعتادة. وهو يغطي المستويات الترابية الأربعة: المستوى الوطني، المستوى الجهوي، المستوى الإقليمي ومستوى الجماعات المحلية، مع إجراء مقارنات على الصعيد الدولي.
2 – طالبت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة الحكومة المغربية بالوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بالحد من عدم المساواة في ولوج الأطفال إلى المدرسة، بعد أن دقت جمعيات مغربية ناقوس الخطر إثر إغلاق 181 مؤسسة تعليمية عمومية بالمغرب ما بين 2014 و2015.
3 – محمد أوبالاك، رسالة لنيل الماستر المتخصص في الاستشارة القانونية حول موضوع: “الدور الاستشاري لصندوق النقد الدولي”، الموسم الجامعي 2015/2016، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا.
4 – أكدت هالديس هلست، نائبة الأمين العام لمنظمة “الدولية للتربية”، التي تضم مجموعة من النقابات التعليمية العالمية، أن “الدولة المغربية مسؤولة عن ضمان حق التعليم وعدم المتاجرة به”، لافتة إلى أنها تعمل من خلال وجود قطاعين عام وخاص على خلق مجتمع غير متوازن في الطبقات الاجتماعية.
5- عبد القادر أكجيل، “أية اختصاصات للتفتيش في سياق الإصلاح” جريدة العلم العدد: 23445 بتاريخ 10 فبراير 2016.
6- ذ. سمر حسن سليمان، مفهوم الإشراف التربوي، (مفهموم_الإشراف_التربوي http://mawdoo3.com/) تاريخ إدراج الموضوع 11:51، 11 أبريل 2016.
7- “دور التفتيش التربوي في النهوض بمنظومة التربية والتكوين” حسن ادويرا، (مفتش تربوي) 11 يناير 2014، موقع تربويات: http://www.tarbawiyat.net/news7088.html
8 – من بين هذه المهام : تأطير ومراقبة مؤسسات التعليم الخصوصي؛ وتسيير مجالس التعليم بالمؤسسات التعليمية؛ وإعداد التقارير التركيبية للمجالس التعليمية واستثمارھا؛ وتتبع المراقبة المستمرة وإعداد تقارير حول استثمار نتائجها؛ وتأطير الأساتذة العاملين بالمؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية؛ وتأطير المربيات والمربين العاملين بالتعليم الأولي؛ والإسهام في تأطير المكلفين بمھام الإدارة التربوية وفي الإشراف على بحوث الجدد منھم (قبل استحداث مسلك الإدارة التربوية)؛ والإسهام في تأطير الطلبة المفتشين المتدربين ميدانيا؛ والطلبة الأساتذة والمستشارين في التخطيط والتوجيه بمراكز التكوين؛ والإسهام في تأطير أطر الدعم التربوي المكلفين بمراكز التوثيق والمكتبات المدرسية والقاعات متعددة الوسائط، وبالمختبرات العلمية؛ والتأطير التقني لإعداد ووضع وتعديل الخريطة التربوية؛ وتأطير المستشارين في التوجيه العاملين بالقطاعات المدرسية وتتبع أنشطتھم وتقويمھا؛ وتأطير أطر التخطيط التربوي العاملة بالإقليم؛ وتأطير منشطات ومنشطي التربية غير النظامية ومحو الأمية؛ وتنظيم الدروس التجريبية : تأطيرھا وإنجازھا وتسييرھا وتتبعها.