عامان على "بريكست"
عامان على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.. أُنجز "بريكست" نظريا، لكن عمليا لا تزال علاقات لندن وبروكسل عالقة في تفاصيل عدة.
الوعد الذي أطلقه رئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون، عام 2019، كان هو إتمام "طلاق" لندن وبروكسل.. وفي سبيل تحقيق هذا الوعد منح البريطانيون "جونسون" في الانتخابات العامة ذلك العام أكثرية نيابية مطلقة لم يعرف حزب المحافظين مثلها منذ عهد مارجريت تاتشر، التي قادت البلاد خلال ثمانينيات القرن الماضي.
خلال عامين، تغيّر رئيس الحكومة ثلاث مرات.. مضى "جونسون" الذي وعد بإنجاز الخروج، بعد أن استبدل به المحافظون مرة ليز تراس، التي تولت السلطة لنحو شهرين فقط، ومرة ثانية ريشي سوناك، الذي يتخبط منذ أكتوبر الماضي على جبهات داخلية وخارجية عدة.
ثمة أسباب كثيرة، ولكن أبرزها هو فشل إتمام "بريكست".
اتضح للجميع أن الطريق نحو "بريكست" وعرة جدا.. وقد ترافقت خلال العامين الماضيين بمطبات كبيرة، أبرزها جائحة كورونا ثم حرب أوكرانيا وروسيا.
أما المزاج العام، الذي أيد الخروج في استفتاء عام 2016، فقد تغيّر اليوم وفق استطلاعات الرأي.. وآخرها يقول إن ثلثي البريطانيين باتوا يؤيدون العودة إلى الاتحاد الأوروبي.
بلغة الحقائق، لم يُنجَز "بريكست" بعد.. لم تغادر أيرلندا الشمالية، وهي جزء من الدولة، السوق الأوروبية الموحدة.. إضافة إلى أن القوانين الأوروبية الناظمة لمختلف جوانب حياة سكان المملكة المتحدة لم تتغير حتى الآن.. ناهيك بنفوذ محاكم الاتحاد الأوروبي المستمر حتى الآن.
هذه التفاصيل ليست شكلية.. وإنما تشكل رؤوس جبال جليد تعترض طريق سفينة المملكة المتحدة المُبحرة في مياه "بريكست".
أما نتائج ما وقع من الخروج حتى الآن، فهي دلائل أخرى على أن السفينة لا تسير على خير ما يُرام، وطاقمها لا يملك حلولا للمشكلات التي واجهته وستواجهه، حتى يصل بالركاب إلى الشاطئ.
هل كان معسكر الخروج فعلا يظن أن إنجاز "بريكست" يحتاج إلى عام انتقالي واحد فقط بعد عقود طويلة من تشابك العلاقات بين لندن وبروكسل؟
وكم عدد السنوات التي يمكن أن يحتملها البريطانيون في مواجهة الانكسارات والتداعيات التي أصابتهم كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لـ"استقلالهم" عن الاتحاد الأوروبي؟
"جونسون" ورفاقه وعدوا الناس باتفاقيات تجارة حرة تفيض عن حاجة المملكة المتحدة بعد "بريكست".. وها قد مر عامان ولم تُفلح ثلاث حكومات للمحافظين سوى في إبرام اتفاق واحد مع نيوزيلندا لا يسمن ولا يغني من جوع.
أما التوفير في كلفة العضوية الأوروبية، والذي قالوا إنهم سيوظفونه في دعم الاقتصاد، فتحول إلى فتات مساعدات في كلفة فواتير الطاقة، بينما ينحسر الإنفاق الحكومي على كل شيء تقريبا.
نقصُ العمالة هو القاسم المشترك في جميع القطاعات بعد "بريكست".. وأنصار الخروج بين البريطانيين باتوا يبكون تلك الأيام التي كانوا يتمتعون فيها بحق العيش والعمل في دول مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان.. حيث يرون أشعة الشمس ويدفعون أقل بكثير مما ينفقون في لندن أو غيرها من مدن الجنوب في المملكة المتحدة.
من أهم دوافع الخروج كانت رغبة البريطانيين في تنظيم حركة الهجرة إلى بلادهم.. وها هي المملكة المتحدة بعد عامين من "بريكست" تواجه "غزوًا من المهاجرين"، وتدفع للفرنسيين عشرات ملايين الجنيهات الإسترلينية ليساعدوها على صد هذا الغزو.. فأكثر من 70 ألف مهاجر عبروا بحر المانش خلال 2021 و2022.
قبل بضعة أشهر نقلت مصادر مقربة عن وزير الخزانة، جيرمي هانت، أن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وفق النموذج السويسري سوف تزيل مئات الحواجز التجارية بين لندن وبروكسل.
وتحت ضغوط نواب حزبه رجع "هانت" عن كلامه وقال إن النموذج السويسري لا يناسب بلاده وسوف يعيقها عن قطف فرص كثيرة.
السؤال الموجه لوزير الخزانة وحزب المحافظين، إن كان النموذج السويسري لا ينفع في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فما خِيارات لندن؟ وكيف يمكن إزالة هذه الحواجز الكثيرة التي تحدث عنها "هانت" خاصة وأن أسواق العالم كلها تئن تحت وطأة التضخم والركود ولا ترحب بالصناعات والمنتجات البريطانية حاليًّا؟
من "نعم" الخروج أيضا، الانقسامات والتباينات التي دبت بين دول المملكة المتحدة خلال العامين الماضيين.. فحكومة إدنبرة وضعت الانفصال عن لندن نصب عينيها.. وقد أعلنت الوزيرة الأولى نيكولا ستيرجن "الاستقلال" عن بريطانيا عنوانا وحيدا على أجندة حزبها القومي الاسكتلندي في الانتخابات العامة عام 2024.
في أيرلندا الشمالية يقف اتفاق الجمعة العظيمة مع جمهورية أيرلندا على المحك.. فمعاهدة "بريكست" لم تحلّ مشكلة الحدود المفتوحة بين شقي الجزيرة.. والانتخابات البرلمانية الأخيرة في بلفاست جعلت لندن تحلم بإعادة الحياة إلى نظام تقاسم السلطة الساري بين حزب "شين فين" و"الاتحادي الديمقراطي" منذ عام 1998.
ربما كان التقدم على دول القارة العجوز في التطعيم ضد كورونا هو النقطة الإيجابية الوحيدة لـ"بريكست".. وهي ذاتها محط خلاف، لأن المعارضين للخروج يقولون إن هذا الإنجاز كان يمكن تسجيله ضمن الاتحاد الأوروبي، أما المؤيدون فيرون أن لندن كانت ستتعرض لضغط كبير من بروكسل في هذا الإطار.
في الحالتين، لم ينقذ لقاح الجائحة الاقتصاد البريطاني وسوق العمل في المملكة المتحدة من آثار "بريكست".. لا تزال صعوبات التكيف مع "الاستقلال" الأوروبي تتراكم.. كما تزداد كل يوم رقعة التشكيك في قدرة "المحافظين" على الوفاء بتعهداتهم في إنجاز الخروج كما كان يحلم البريطانيون، أو كما سوَّق له معسكر جونسون.
بقي أن نشير إلى أن حزب العمال، الذي صوت 65 بالمئة من أعضائه لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي عام 2016، اقترب من السلطة كثيرا خلال العام الثاني من "بريكست"، وذلك على ضوء تراجع شعبية "المحافظين" إلى مستويات لم يعرفها الحزب الأزرق منذ سنوات طويلة.
لا يعد "العمال" بالعودة عن "بريكست"، ولكن كثيرا من قادته اليوم يؤيدون المرونة في الحوار مع بروكسل لحل المشكلات العالقة، والمرونة هي سبيل البريطانيين الوحيد للنجاة من كوابيس "الاستقلال" الأوروبي.