سوريا وتركيا.. توازن المصالح معيار الاستقرار
الأفق الجديد الذي تدخله أنقرة ودمشق بلقاءات مسؤوليهما، والإفصاح عن رغبة في تجاوز عقد الاضطراب، يتميز بإحياء قواسم مشتركة لم تدفنها السنوات الماضية.
بعض هذه القواسم كان فتيلا قابلا للتفجير في أي لحظة، بينما شكّل أغلبها سببا لمزيد من التلاقي والارتقاء.
ويحتاج هذا الأفق، لكي يبقى سالكا وراسخا ومحصّنا ضد ما قد يعتريه أو قد يعترضه من تحديات ومنعرجات في المستقبل، إلى تشييد عدد من الركائز والأسس المتينة من خلال الشراكة.
الأكثر إلحاحا في سياق التفاهمات المأمولة هو أن ينجز الطرفان اتفاقات متوازنة تكون قابلة للاستمرار على قاعدة تسوية شاملة لجميع الملفات، التي أنتجتها السنوات الماضية من جانب، إضافة إلى تلك الملفات التي ظلت كامنة ومحط تجاذب بينهما في مراحل سابقة على الأزمة، خاصة المتعلقة بالهواجس الأمنية المقلقة لكليهما أو لأحدهما من جانب آخر، ذلك أن إسقاطها من حسابات كل طرف سيشيع مستقبلا حالة طمأنينة في العلاقات، وسيفسح لكليهما المجال لتغذية التقارب وتعزيزه وتطويره على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية.
إزاحة العُقدة الأمنية عن طريق التفاهمات تأتي عبر المصارحة ومعالجة أسبابها بما يخدم مصالحهما، لكي تضيف ركيزة إلى جملة الركائز التي يجري البناء عليها، ولا تبدو عصيةً على التحقق بعد أن اكتوى البلدان بمفاعيلها وارتداداتها.
بلورة معادلة قائمة على توازن المصالح هي وحدها القادرة على منح العلاقات بين أنقرة ودمشق صفة الديمومة، بحيث يحصل كل جانب على مطالبه ضمن صيغة "لا رابح ولا خاسر"، وبذلك تصبح ملزمة للجانبين كي يحرصا على التمسك بها واتخاذها قاعدةً ومعيارًا للتفاهم وتجاوز أي منعطف خطير قد يبرز مستقبلا في سياق العلاقات الثنائية.
ثمة جهات داخلية وخارجية لا تنظر بعين الرضا لإتمام صفقة المصالحة بين أنقرة ودمشق، وهذه الجهات لها دوافع مختلفة، لكن اختيار أنقرة ودمشق التدرج المدروس في خطوات التقارب يؤكد إدراكهما لذلك، ويبرهن على قدرتهما وإرادتهما للبناء على ما يجمع بينهما، بعد معالجة الأسباب التي باعدت بينهما سابقا، وبالتالي ليس صعبا تحويلها إلى فرص عبر العمل السياسي والدبلوماسي الحثيث، بحيث يستفيد منها كلاهما، كلٌّ حسب حاجته.
في الحديث عن أكثر العوامل تأثيرا وقدرة في دفع المسار التصالحي بينهما تبرز سياقات ثلاثة:
الأول تركي، ينطلق من قرارات وتوجهات أنقرة بإحداث تحول في النهج السياسي مع دول المنطقة عموما، والعربية منها تحديدا.
والثاني عربي، تتولى زمامه دولة الإمارات بدبلوماسية رصينة وفاعلة تمكنت من بلورة نقاط التقاء مع الجميع، انطلاقا من قناعتها بضرورة تعافي سوريا وطيّ صفحة العشرية القاسية، التي مرت عليها وعلى أهلها، بالتوازي مع احترام مصالح تركيا.
أما السياق الثالث، فيتمثل في الدور الروسي، الذي يحظى بتقدير الأطراف الثلاثة.
هذه السياقات تبدو بمثابة الضمان المتين من خلال رعايتها لمجمل العملية التصالحية في سيرها الراهن، وفي مخرجاتها المنشودة لاحقا.
آثارُ المرحلة التصادمية الماثلة حتى الآن بين الجارين تحتاج إلى إعادة تأسيس للعلاقات وفق ضوابط ومحددات سياسية واضحة لا تقبل التأويل، ولا تكون مجرد استجابة لمصالح طرف على حساب آخر، أو اتخاذها عنوانا لتحقيق أغراض ظرفية ومرحلية تنتفي الحاجة إليها بزوال أسبابها.
تصريحات المسؤولين السوريين والأتراك توحي بالرضا حيال تطور عملية التفاوض، وتؤكد أن تفعيل المسار الدبلوماسي بات تحصيل حاصل لما تم الاتفاق عليه بشأن أكثر الملفات الشائكة بينهما، وهو موضوع مكافحة الإرهاب على طرفي البلدين، لأنهما يواجهان خطره بصرف النظر عن طبيعته وأهدافه وأدواته.
السنوات العشر من الخلاف بين سوريا وتركيا كشفت أن استقرار العلاقات بين البلدين الجارين محكومةٌ بسلسلة من الحلقات المشتركة المتصلة ببعضها، ولا بد من العناية بها من قبل البلدين معًا، فما أن تضطرب إحداها أو تهتز حتى تتأثر الأخرى بشكل دراماتيكي.