ثقافة العمل وثقافة الكلام
أول قوانين التاريخ أن الأمم تنهض بالعمل والمثابرة فيه، وتتراجع وتنهار حين تستبدل به الترف والدَّعة والاعتماد على الغير، ويحكمها الكلام والجدل.
والعمل ليس مجرد مفهوم أو شعار أو كلمة، وإنما هو أساس لمنظومة قيمية كاملة تشكّل الوعي وتطبعه بصفات معينة، وتحدد مفردات الثقافة، بل تعيد صياغة البرنامج اليومي للإنسان، الذي هو أهم مكونات ثقافته.
وتربية الأمم على ثقافة العمل عملية معقدة غاية التعقيد، وتحتاج إلى تضافر منظومات اجتماعية وسياسية ونقابية وتعليمية متعددة، لأن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة بناء شاملة لثقافة مستقرة وراسخة، تنظمها مكونات ومفردات وسلوكيات وعادات.
ومن أهم الوسائل التي يمكن من خلالها إعادة إدماج ثقافة العمل وقيمه في النظم الثقافية الراسخة لمجتمعاتنا ما يلي:
أولا: القيام بعملية غربلة وتصفية شاملة للثقافة المتوارثة لفرز القيم الدافعة للعمل والإنجاز وما يتعلق بها من قيم وسلوكيات واتجاهات، واستبعاد تلك القيم والسلوكيات التي تعوق ثقافة العمل أو تنتقص منها أو تضعفها.. ويتم ذلك من خلال جهد عملي لفريق بحثي متعدد التخصصات والخبرات ينكبُّ على إعداد دستور العمل في ثقافة المجتمع، واضعا نصب عينيه التركيز على القيم المضادة للعمل وللإنجاز، لأنها الأكثر خطورة في هذا الصدد، فما لم يتم تخلية العقول والنفوس من قيم الاتكالية والفردية والانتهازية والترف والدعة والرغبة في الكسب السهل، والقناعة السلبية التي تؤدي إلى عدم الإنجاز، واحتقار العمل اليدوي.... إلخ.. ما لم تتم تصفية هذه القيم وإخراجها من الثقافة العامة للمجتمع، فلن يكون ممكنا بعد ذلك إحلال القيم الإيجابية في الثقافة لأن القاعدة تقول: "التخلية قبل التحلية"، فقبل أن نضيف الأفضل يجب أن نزيل الفاسد.
ثانيا: العمل على إدماج القيم الدافعة إلى العمل في النظم التعليمية، خصوصا ما قبل الجامعية، وذلك بطرق ووسائل مبتكرة لا تقوم على الوعظ المباشر أو الخطاب الإرشادي التقليدي، وإنما تعتمد وسائل غير مباشرة توظف القصة والصورة وتدفع المتعلم إلى الاكتشاف والتنبؤ والتوصل إلى النتيجة المرجوة بعملية عقلية يقودها هو بنفسه لنفسه، ومن ثمّ فلن يكون لقيم العمل وثقافته موضع محدد من المنهاج الدراسي، دائما ستكون جميع المناهج والمواد الدراسية -ابتدء من اللغة والدين إلى الرياضيات والعلوم مرورا بالدراسات الاجتماعية والفنية- مجالا لبث قيم العمل وإدماجها في ثقافة النشء وتربيتهم عليها منذ نعومة أظافرهم.
وهنا يجب أن نستفيد من تجارب دول ومجتمعات أخرى مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وغيرها، لنعرف كيف استطاعت أن تربي شعوبها تربية تقوم على احترام العمل والترغيب فيه وجعله مصدرًا للمتعة الحياتية ومجالا لتحقيق الذات الإنسانية وحصولها على السعادة والطمأنينة في الحياة.
ثالثا: تفعيل دور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، ابتداء من التليفزيون والصحافة والراديو، وانتهاء بالخطاب الديني، وذلك من خلال تطوير وسائل جذابة وتشويقية تُرغّب المجتمع في العمل وقيمه، وتدفعه لترك القيم المضادة لقيم العمل والتخلي عنها.
ويحتاج هذا الأمر إلى حملات إعلامية وإعلانية، بل قد يحتاج إلى تخصيص عام يُطلق عليه "عام العمل"، يكون مقدمة أساسية للنهوض وتحريك الهِمم، وتحفيز الناس ودفعهم للالتفات إلى ما قد تركوه وراء ظهورهم وانشغلوا بغيره من قيم وسلوكيات واتجاهات إيجابية دافعة للعمل والإنجاز.
رابعا: تفعيل دور النقابات والاتحادات المهنية والنوادي في ترسيخ نوعية معينة من قيم العمل مثل: فكرة روح الفريق، أو العمل الجماعي، وفكرة التميز، والإنجاز المتفرد، وأفكار التطوير المستمر، والإتقان والكفاءة.. وذلك من خلال عقد دورات تدريبية وورش عمل على مستويات مختلفة للقيادات المهنية، على أن تقوم تلك القيادات بتدريب الصف التالي، وهكذا، أي أن يعتمد أسلوب "تدريب المدربين" حتى يتم الوصول إلى قاعدة الهرم العمالي ليكون العامل نفسه قدوة ونموذجا للمجتمع.
خامسا: تأسيس مواقع على الشبكة الدولية للمعلومات لنشر قيم العمل والتدرّب عليها وإثارة النقاش حولها لتحويل هذه القيم إلى مادة بحث ونقاش، ومن ثم تصير جزءا من ثقافة الأمة.
من خلال هذه الخطوات، وغيرها، يمكن تحويل ثقافة المجتمع من الانشغال بالكلام والجدل والنقاش في قضايا لا تهم الشخص المتحدث فيها، ولا يستطيع أن يغيرها أو يؤثر فيها، وتحويل اهتمام الأفراد إلى ما يفيدهم مباشرة، وبذلك تنشأ ثقافات فرعية لكل مهنة، ولكل مجال عمل، ينشغل بها المنتمون لهذه المهنة، أو ذلك العمل.. فما يحتاج إليه الميكانيكي أن يتابع أحدث الوسائل والابتكارات في مجاله، لا أن ينشغل ليل نهار بموضوعات تفرضها عليه برامج الكلام على شاشات الفضائيات، وما يحتاج إليه الطبيب أن يتابع أحدث الأبحاث والممارسات في الطب، لا أن ينشغل بالسياسة والاقتصاد، وكأنه يدير دولة.. ثقافة العمل تعني ثقافة كل مهنة تجعل العاملين فيها يتقنونها.