أزمات المحافظين وأحلامهم
منذ نحو عامين، لا يمر شهر تقريبا على المملكة المتحدة إلا وتتفجر أزمة لقيادي في حزب المحافظين، أو تظهر أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يُلام عليها الحزب.
بدأ الأمر في مايو 2020 مع مخالفة قوانين كورونا من قبل دومينيك كامينج، مستشار رئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون.. ووصل اليوم إلى نائب رئيس الحكومة ووزير العدل، دومينيك راب، الذي يواجه اتهامات بالتنمر على زملائه.
بين كامينج وراب، قائمة من قادة الحزب الحاكم، الذين أخطؤوا في سلوكهم الشخصي أو المهني.. أبرزهم بوريس جونسون، الذي خسر رئاسة الوزراء بسبب "حفلات كورونا".. ولكنه قبل ذلك تعرض لانتقادات شديدة، مرة بسبب ترميمه المنزل رقم عشرة بكُلفة كبيرة تبين أنها من تبرعات أعضاء حزب المحافظين.. ومرة ثانية بسبب إجازة فارهة قضاها على جزيرة في الكاريبي لم يعرف كيف تحمل تكاليفها.
جونسون يمتلك شخصية قيادية ومهارات إقناع جلبت لحزبه أكثرية برلمانية ساحقة في انتخابات عام 2019.. وبعدما تولى رئاسة الحكومة بات مصدر إلهام للنواب المحافظين، ليس فقط في براغماتيته، وإنما أيضا في أفعاله "المتعالية على القانون". فكثرت هفوات قادة الحزب ونوابه. ثم توالت فضائحهم في مسلسل لم تنته حلقاته إلى اليوم، وبعض فرسانه وأبطاله لا يزالون على رأس عملهم، وكأن شيئا لم يكن.
رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك، غُرّم مثل جونسون في "فضيحة حفلات" مقر الحكومة خلال كورونا.. كان سوناك حينها وزيرا للخزانة، واليوم يجلس على رأس السلطة التنفيذية.
الأمر ذاته ينطبق على وزيرة الداخلية، سويلا برافرمان، التي استقالت من هذا المنصب في حكومة ليز تراس، بعد تسريبها معلومات رسمية عبر بريدها الإلكتروني الشخصي، فكانت مكافأة سوناك لها إعادة تعيينها في ذات المنصب ثانية.
قبل أيام قليلة، أجرى سوناك تعديلا وزاريا.. عيّن من خلاله رئيسا جديدا لحزب المحافظين خلفا لناظم الزهاوي، الذي طرد إثر فضيحة تهرب من الضرائب وتغريمه 5 ملايين جنيه إسترليني.
والزهاوي كان أصلا وزيرا للتعليم، ومن ثم للخزانة في عهد جونسون. وقبل الزهاوي جمدت عضوية نائب من الحزب بسبب "اتهامات أخلاقية".. وآخر بسبب التربح غير المشروع، ووزير سابق من المحافظين اتهم أخلاقيا.
مع كل أزمة من تلك تتسع الهوة بين الشارع البريطاني والحزب الحاكم، وتتقلص فرص حفاظ المحافظين على السلطة في الانتخابات العامة، المقررة بعد 18 شهرا.. ولأن رائحة الأزمات أصبحت تزكم الأنوف، تسرب إحساسا مسبقا بالهزيمة إلى صفوف الحزب على اختلاف درجات أعضائه.. وبدأت تسمع همسا بشأن الحكومة العمالية القادمة، وكيف يمكن محاصرتها كي تُهزم بعد خمس سنوات فقط.
هل يملك المحافظون أن يفعلوا ذلك فعلا؟
الإجابة رهن حزمة القرارات والتشريعات، التي يحاولون تمريرها عبر أكثريتهم البرلمانية خلال العامين الحالي والمقبل.. فبعضها يرنو إلى تسجيل إنجازات ترفع رصيد الحزب الحاكم وتقلب الطاولة على "العمال".. وبعضها الآخر يعكس توقع الخسارة في 2024، فيسعى إلى تقييد الحكومة المقبلة بخطط لا يمكن تنفيذها.. أو دفعها لإجراءات تجر عليها نقمة شعبية تتراكم مع الوقت.
المهرب الوحيد أمام "العمال" يتمثل في الفوز بأكثرية ساحقة في البرلمان المقبل.
فمن خلالها فقط يمكنهم إزالة الألغام التشريعية، التي زرعها المحافظون أمام الحكومة المقبلة.
لن تكون مهمة سهلة أبدا لأسباب بعضها يرتبط بالحزب، وبعضها الآخر يتعلق بالوضع الداخلي وما جرته التغيرات الدولية على الساحتين الأوروبية والبريطانية.
استطلاعات الرأي تبشر بالحكومة العمالية المقبلة منذ سقوط حكومة جونسون.. ومع كل إصدار جديد تقول الأرقام إن الهوة بين الحزبين، الأزرق والأحمر، تتسع لصالح الأخير -العمال- في الانتخابات المقبلة.. وكلما اقترب موعد الاستحقاق تعمقت أزمة المحافظين وزادت صعوبة ترميمهم الثقة الشعبية المكسورة بهم وبوعودهم الانتخابية، التي لم يتحقق منها الكثير، خاصة فيما يتعلق بثمرات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
عندما تتكشف الأزمات عبر وسائل الإعلام المحلية، تتعامل معها قيادة المحافظين إما بدفع المسؤول عنها إلى الاستقالة، وإما بطرده من منصبه.. ولكن مثل هذه الحلول لا تُجدي مع مصيبة اقتصادية، كالتي جرتها على البلاد رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، أو مع إخفاق بحجم فشل "بريكست"، أو مع تراجع في قيمة أجور القطاع العام إلى حدود تفجرت عندها إضرابات لم تعرف مثلها المملكة المتحدة منذ عقود طويلة.
والحال، أن رئيس الوزراء يقاتل من أجل حلحلة الأزمات الاقتصادية، التي تعيشها البلاد مع بداية العام المقبل، أي قبيل الانتخابات العامة المقررة عام 2024.. وهو في هذا إنما يراهن على ذاكرة قصيرة للبريطانيين تُسقط إخفاقات السنوات السابقة من حساباتهم.. ولا تلتفت للأخطاء التي ارتكبها المحافظون منذ عام 2019.. ليكون التقييم والحكم على أداء الحزب الحاكم فقط في إطار إنجازاته ونجاحاته خلال عام الانتخابات.
في ظروف اقتصادية وسياسية مثالية في أوروبا والعالم خلال العام المقبل، قد ينجح رهان المحافظين على إنجازات الأيام الأخيرة.. ولكن ماذا عن أزمات قادة الحزب ونوابه؟ مَن يضمن أن تتوقف قبل الانتخابات المقبلة؟ ومَن يضمن ألا يفجر سوناك نفسه واحدة منها؟
يقول الكاتب الإنجليزي وليام شكسبير: "الفضيحة لها أجنحة، والفضيلة لها أقدام، ولذلك تصل الفضيحة وتتأخر الفضيلة".
والسؤال.. بعد كل الفضائح، التي ارتكبها المحافظون منذ 2019، هل يمكن فعلا أن تصل فضائلهم في الوقت المناسب؟