الاستعداد للزلزال المقبل
بعد كل المرارة والألم، فإن مشاهد الدمار في المدن، التي تعرضت للزلزال في تركيا وسوريا، تتطلب شجاعة لقبول الاعتراف بأنها أقيمت على فهم لا يتناسب مع التاريخ والطبيعة.
أنماط البناء السائدة هي ما يبرهن على ذلك. وملاحقة متعهدي البناء من جانب السلطات التركية تؤكد هذه القناعة. ولكن إعادة البناء هي ما يتعين أن تقطع مع السائد، لتقوم على تصور يُفترض مسبقا أنها قادرة على مقاومة الزلازل، وذلك ما دامت أنها تقع في مناطق معرضة للتهديد.
الافتراض القائل إن الزلازل تحدث دون أن يتوقعها أحد لا يتوافق مع الحقائق.
لا توجد وسائل تحدد اليوم والساعة، التي يمكن أن يحدث بها الزلزال. ولكن خطوط الزلازل معروفة.. ما يعني أن بناء مدن فوق هذه الخطوط، هو بحد ذاته خطيئة.. إنها شيء يشبه بناء قرية على حافة بركان نشط. صحيح أنك لا تعلم متى سيثور، ولكنك تعلم أنه سيثور في النهاية.
يعز على ملايين الناس أن يهجروا مدنا عاشوا فيها. ولكن يجب أن تعز عليهم أرواح أبنائهم وأحفادهم.
المناظر التي نراها الآن في تركيا وسوريا، من الممكن ألا تتكرر لو أن كل المدن التي وقعت على خط احتكاك الطبقات التكتونية، أعيد بناؤها في مكان آخر. ولكن هذه الفكرة مستحيلة طبعا. إلا أن مرارة وخسائر بهذا الحجم مستحيلة أيضا.
الصين "9.7 مليون كم مربع" تعرضت على مدى الأعوام الثلاثين الماضية لـ182 زلزالا. بينما تعرضت اليابان "377 ألف كم مربع" في الفترة نفسها لـ94 زلزلا. وبالنظر الى فارق المساحة بين هذين البلدين، فإن أثر الزلازل على اليابان يبلغ نحو 28 ضعفا، ما يجعلها واحدة من أكثر بلدان العالم تعرضا للهزات الأرضية العنيفة. إلا أنها والصين قدمتا للبشرية نوعين من الخبرة التي لا غنى عنهما. الأول، هو هندسة البناء المرن التي يمكن أن تمتص الاهتزازات دون أن تؤدي إلى انهياره، وهو النمط الشائع في المدن الكبرى. والثاني، هو المنازل التقليدية الخفيفة، التي تعتمد في بنائها على الخشب والقش، وهو النمط الشائع في الريف وأطراف المدن.
الشيء الأهم في كل نمط من أنماط البناء في هذين البلدين، هو أنه يقوم، قبل الهندسة، على فكرة مسبقة تقول: إن زلزالا سيقع إن عاجلا أم آجلا.
والسؤال هو: كيف تواجهه؟ ولقد كان على التقاليد، ومن ثم على الهندسة الحديثة، أن تستوعب الفكرة، وتجيب عن السؤال قبل أن تشرع في العمل.
الاكتظاظ السكاني يدفع، دون أدنى شك، إلى بناء مجمعات وشقق، وهناك معايير يتعين التزامها، بصرف النظر عما إذا كان البناء معرضا للاهتزاز أم لا.
لكن الاندفاع نحو بناء قليل الكلفة، ثبت أنه مكلف أكثر. وذلك مثل كل شيء آخر، تشتري رخصه، فتدفع له مرتين أو أكثر.
الاستسلام للمألوف ثبت أنه خطير أيضا. إذ يمتد عمر المدن، التي تعرضت لأكبر الضرر، إلى مئات أو حتى آلاف السنين. وحتى بعد أن تضررت لعدة مرات في السابق، فقد ظل العيش فيها مألوفا.
حلب يعود تاريخها إلى سبعة آلاف عام. أما "غازي عنتاب"، بين مدن تركية عريقة أخرى، فيعود تاريخ نشأتها إلى نحو 3500 عام. وكان الحيثيون الذين بنوا أولى إمبراطوريات الأناضول، هم الذين أسسوها.
هذه المدينة لم تنطفئ أنوارها منذ ذلك الوقت. وبرغم أنها تعرضت في عام 1999 لزلزال مدمر، فإن العيش فيها لم ينقطع. ومن غير المنتظر أن ينقطع. وحيث إنها مدينة تاريخ واحتكاك حضارات وثقافات وأديان، وليس فقط احتكاك طبقات تكتونية تحت سطح الأرض، فإن التخلي عنها مستحيل من الناحية الواقعية. ولكن ما هو غير مستحيل أن يعاد النظر إلى طرائق البناء فيها بما يتلاءم مع واقع أنها يمكن أن تتعرض من جديد لما تعرضت له في السابق.
في التعامل مع قهر الطبيعة وقسوتها، لا توجد خِيارات رخيصة. ولا يصح الأخذ بها أصلا.
لقد عاشت شعوب المنطقة دهورا طويلة وهي تبني بالطين، قبل أن يدخل الإسمنت. وربما كانت أكثر أمنا. ولم يعد بالإمكان العودة إلى الوراء. ولكن لم يعد بالإمكان التهاون مع المخاطر. وقد لا تجد مفرا من وسائل البناء الحديثة، ولكن مخططات الاستجابة للمخاطر يجب أن تكون جاهزة أيضا، وأن تؤخذ بعين الاعتبار.
وقد لا يكون التنبؤ بالزلزال، باليوم والساعة، حلما بعيدا. ولكن حتى يأتي ذلك اليوم، فإن طرائق البناء والعيش يحسن أن تدرك سلفا أنها يجب أن تتأهل بما يتوافق مع المخاطر.
بمعنى آخر، خذ بما يأخذ به اليابانيون والصينيون.
العيش على حافة بركان نشط ليس مستحيلا في النهاية، إذا ما توفرت وسائل النجاة والاستدراك.. وهذه الوسائل هي ما يتوجب أن يتوفر أولا.
اليابانيون والصينيون، الذين صنعوا منازلهم من الخشب والقصب والقش، علمتهم الطبيعة وسائل النجاة من قهرها وقسوتها.
وطالما لا يمكن الابتعاد عنها، فإن المعنى من كل هذا، هو أن إعادة بناء المدن التي تهدمت تقف أمام خيار عملي واحد: أن تستعد للزلزال المقبل.
كل ما رأيناه من دمار، هو في الواقع تعبير عن فشل ثقافي في العلاقة مع التاريخ والطبيعة.