"الكلام عليه جمرك".. اللغة والإنسان والأثر المشترك
حين سمعت للمرة الأولى منذ سنوات ديوان عبد الرحمن الشرقاوي "الكلمة" بوقعه الرنان على الآذان انبهرت بنظم الشعر ومعناه، حتى لأذكر أنني ظللت أردد منه البيتين اللذين حفظتهما سماعيا ليومين كأنها أغنية عمرو دياب الجديدة.
وفي مرحلة أخرى حين كبرت قليلا، بدأت أسأل نفسي عن مدى المبالغة في بعض أبيات الشرقاوي، هل تصل مجرد كلمة إلى أن تكون "فُرقانا ما بين نبي وبغي"؟ هل فعلا "شرف الرجل هو الكلمة"؟
لقد تعوّدنا سماع جُمل مثل: "دي كلمة لا راحت ولا جت"، أو "ماتقفش على الكلمة"، أو "دي حتة كلمة"، أو السؤال الاستنكاري بالعامية المصرية "هو الكلام عليه جُمرك"؟! بمعنى أن الكلام الخارج من الفم لا ندفع عليه نقودا كي نحسبه مثلما نحسب البضائع، التي ندفع عليها جمارك.
كبرت أكثر ودرست لغويات وأدبا وحضارة، فعلمت أننا مَن نحط من أثر الكلمة وليس "الشرقاوي" هو مَن بالغ في تقديرها حق قدرها.
أدركت أستاذة الأدب الإنجليزي، رضوى عاشور، قبل أن تكون روائية وقاصة، ذلك جيدا في اختيارها ألفاظها أثناء روايتها للأحداث.
في روايتها "سراج" مثلا استخدمت لفظ "يتعاطى" مع القهوة بدلا من "يشرب" أو "يحتسي" لأنها كانت تحكي أحداثا في زمن اعُتبرت فيه القهوة من المُسكِرات.. زمن صدرت فيه الفتاوى بتحريم شرب القهوة، وأمر الحكام بحبس كل مَن يشربها. فكان مَن "يتعاطى" القهوة يتعاطاها سرًّا كمن يشرب المخدِّرات في زماننا.
هنا أثر المجتمع والمحيط في الألفاظ، التي يستخدمها الناس.. هنا نؤثر نحن في الكلمات، فنختار منها ما يناسب معتقداتنا.. فلا نعامل القهوة المحرّمة مثل الماء العذب، فـ"نشرب" كليهما، بل "نتعاطى" أحدهما و"نشرب" الآخر.
يظهر تأثير المحيط في اللغة واضحا جليا إذا قارنا بين ألفاظ اللغات المختلفة.
في عربيّتنا مثلا، التي نشأت في أحضان الجزيرة العربية الصحراوية بحرارتها العالية وجوّها القائظ نقول على الخبر المفرح أنه "أثلج صدورنا".. ذلك أن الثلج هو العملة النادرة، وهو المرغوب وسط هذا القيظ.. فإذا أثلجت الكلمات الصدر معناها أنها كلمات مبهجة ومفرحة ومرغوبة.
على النقيض، حين نترجم العبارة نفسها إلى الإنجليزية، تصبح warmed my heart.. فلماذا تحوّل اللفظ "أثلج" إلى نقيضه تماما مع تغير اللغة؟
لأن الثلج أمر غير محمود في البيئة الباردة التي تشتاق إلى الدفء.. أليس استقبال الضيف في العربية "استقبالا حارا" بينماهو في الإنجليزية warm welcome؟
من هنا نعلم علم اليقين أن كلمات مجتمع ما، ما هي إلا مرآة لأفكاره ومشاعره وبيئته.. فلنطبق النظرية نفسها على قضايا أكبر.
الضفة الغربية في فلسطين، كيف سُميت هكذا، وقد كانت المنطقة نفسها من قبل عبارة عن مدن فلسطينية لكل منها اسمها داخل دولة تسمى فلسطين. ولماذا تسمى "غربية" مع أنها تقع أساسا "شرقي" فلسطين؟
سُميت هكذا لأنها تقع على الضفة الغربية لنهر الأردن.. وقد أُطلق عليها اسم "الضفة الغربية" بعد مؤتمر أريحا عام 1948 حين ضمت المملكة الأردنية هذا الجزء وضمت مصر غزة.. حينها كان ذلك مبرّرا، فقد أصبحت جزءا من المملكة الأردنية فمن الطبيعي أن تُنسب إلى نهر يقع داخل الأردن.. لكن الآن وقد عادت الضفة الغربية وغزة تعبران عما تبقى من أراضي فلسطين.. فلماذا نُصرُّ على نسبها لنهر الأردن؟
قلة استخدام أي لفظ تجعله يندثر.. والتوقف عن نسب الأماكن لبلادها يغيب اسم تلك البلاد عن الأذهان.. لا أجد أي مبرر مثلا لأن نعلن عن حادثة في نابلس فنقرر أن "فُلانا أُصيب في نابلس بالضفة الغربية".. لماذا لا نقول: "فولان أصيب في نابلس شرقي فلسطين".. كيف سيكون مألوفا للأجيال بعد 50 عاما مثلا إنْ لم نكن نذكره إلا لِماما؟
يقول عالم اللسانيات، ديفيد كريستال، في كتابه "كيف تؤدي اللغة مهمتها؟" أوHow language works?، إن "اللغة لا تموت إلا حين يموت آخر مُتحدّث بها، أو بالأحرى ثاني آخر متحدث بها، فلا يجد مَن يتحدثها معه". ويضيف أنه حسب آخر إحصائيات اطلع عليها، فإن هناك ما يقرب من السبعة آلاف لغة قد اندثرت بالكامل، وأن أسباب ذلك كثيرة وممتدة، بدءا من الإبادة العرقية إلى مجرد الاندماج الثقافي في حضارات أخرى.
ثم يعود ويجيب عن سؤال يطرحه على نفسه: هل يمكننا إنقاذ اللغة؟ فيقول إن إنقاذ أي لغة يحتاج في بادئ الأمر إلى الإرادة.. وهنا مربط الفرس، إن طبَّقنا نظرية اللغة ككل على ألفاظها ووحداتها الأساسية المكونة لها، سنجد أن أي لفظ أو اسم أو مصطلح، يتوقف بقاؤه أو اندثاره على استخدامه بالأساس.. ببساطة "ما لا يُستخدم ينقرض".
لم يبالغ الشرقاوي إذًا.. ولا كان كلامه مجرد سجع عاطفي حين قال: "الكلمة نور وبعض الكلمات قبور"، فقد أثبت العلم أن الكلمة تدفن كيانات وتحيي أخرى.