الصحافة والتدريب.. رؤية مهنية للخروج من نفق التريند
محمد أحمد طنطاوى
الصحافة والتدريب.. رؤية مهنية للخروج من نفق التريند
أصادف يومياً إعلانات ومنشورات عن تدريبات ودورات متخصصة في مجال الصحافة والإعلام، يغلب عليها الشكلية والظاهرية، الخالية تماماً من كل ما يتعلق بفنون الصحافة، فلن تجد تدريباً حول كيفية الصياغة الصحيحة والسليمة للخبر، أو السرد و أسس اختيار العناوين، أو جمع المعلومات وكيفية التحقق من المصادر، وكيفية كتابة المقدمات الجذابة واختيار العناوين، والحكي بطريقة مختلفة، تجعل القاريء يتعلق بالصحافة مرة أخرى، ويجد فيها الأدب الخاص والسلاسة في العرض وسهولة المحتوى، ناهيك عن القائمين على تلك التدريبات ومؤهلاتهم وخبراتهم المهنية أو العلمية، فأغلبهم لا يمارس المهنة من الأساس!
لا أعرف لماذا انصبت معظم التدريبات الصحفية خلال الفترة الأخيرة على الفنيات والتفاصيل الخاصة بكيفية تصوير الفيديو أو تعلم مهارات "السيو seo"، أو المونتاج وبعض المصطلحات "المجعلصة" من عينة صحافة الجيل الخامس والسابع والتاسع وأجيال لن تسمع عنها إلا في عناوين دون مضمون، فقد زحفت هذه التدريبات على كل المهن الفنية المرتبطة بالصحافة، في حين تركنا الصحافة ذاتها دون تطوير، لينشأ جيل جديد، يجيد التصوير ولا يعرف كيفية صياغة الخبر، يعرف المونتاج والجرافيك، لكنه لا يجيد التفريق بين التحقيق الصحفي والمقال!
شباب الخريجين من كليات الإعلام، ومن يبدأون طريقهم في مهنة الصحافة، لا يجدون أمامهم سوي التدريبات الفنية التي ذكرتها في السطور السابقة، والغريب والعجيب أن أغلب من يقدمون هذه التدريبات لا يجيدون "حرفة الكتابة"، وهذا أمر جد خطير، يضرب المهنة في مقتل، تحت عنوان التطوير والأساليب الجديدة والصحافة الرقمية، وكل الكلمات والعبارات التي يتم تصديرها لإفساد الصحافة بقصد أو بدون.
دائماً ما أردد السؤال: ماذا ينعكس على أداء صحفي في قسم الأخبار بأحد الصحف اليومية، إذا ما تم تدريبه من خلال مجموعة مقالات أكاديمية عن الرقمنة و الديجيتال ميديا، بينما يقع في أخطاء الكتابة البسيطة، وقواعد النحو الأولية، ودائم الخلط بين ألف الوصل وهمزة القطع، ويعاني أخطاء فاحشة في الإملاء وأبجديات الهجاء، وهذا للأسف نراه يومياً في مهنة القلم.
هل يحتاج الصحفيون إلى دورات في المونتاج والجرافيك والتصوير والفيديو؟ نعم يحتاجون، لكن بعد إتقان الفنون الصحفية الأساسية والقواعد المهنية الواضحة، وأساليب الكتابة والبحث وجمع المعلومات، والترابط الذي يميز الموضوعات الصحفية، والاختصار الدقيق، الذي تمتاز به الصحافة عن غيرها من فنون الكتابة، واحترافية العناوين، والجمل القصيرة والعبارات المتصلة، فهذا أولى وأهم، ويجب أن يحرص عليه الصحفي قبل أي أحد، دون أن يتحول كل تركيزنا على الشكليات والبراويز التي لا تحمل جديداً.
أتصور أن كليات الإعلام يجب أن يكون لها دور حقيقي في تحويل التدريب بالصحافة من مسارات شكلية إلى مهنية، يتم خلالها تعليم الطلاب أساسيات الكتابة الصحفية، وأساليب الصياغة، دون أن يكون الموضوع مجرد دراسة لمجموعة من المواد النظرية، التي تجاوز الزمن أغلبها، في مهنة ظهرت أولاً قبل التأصيل لها كعلم أو دراسة، فقد مارس الصحفيون الأوائل الصحافة، ووضعوا قواعدها قبل أن تؤسس الكليات والمعاهد التي تُدرس الإعلام، وصار عدها اليوم 43 كلية ومعهد، وتقذف سوق العمل بآلاف الخريجين سنوياً.
يجب أن يعود التدريب في الصحافة للصحافة، ونترك الشكليات جانباً فالموضوع يتعلق بواحدة من أهم أكثر المهن تأثيراً في المجتمع، ولا يجب تسطيحها وحصرها في مجموعة مفاهيم وفنيات يمكن أن يعمل بها أي شخص، فالصحافة اليوم لا تحتاج إلى الصحفي الذي يعرف فنون المونتاج والجرافيك، بل إلى من يعرف فنون الصحافة ذاتها، والقادرون على الكتابة والوصف والتشويق، فالصحافة تحتاج رؤى مهنية بحتة، تخرج بها من دائرة التريند واللهاث خلف محركات البحث، إلى الكتابة بأسلوب شيق، وطريقة مميزة تحفظ لهذه المهنة قيمتها، بدلا من تحويلها إلى شكل بلا مضمون أو معنى.