الانتماء الوطني من زاوية تربوية
عصام محمد عبد القادر
الانتماء الوطني من زاوية تربوية
ربما تبقى المساعي الصينية، نحو القيام بدور مؤثر في الأزمات العالمية، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، عبر "الوساطة"، نقطة فارقة في المشهد الدولي برمته، خاصة وأنها تأتي في أعقاب نجاح منقطع النظير، في الوصول إلى اتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، في الوقت الذي تبدو فيه حالة من التراجع الأمريكي، في التعامل مع الأزمات، في المرحلة الراهنة، سواء في صورة الصراعات التقليدية، أو ذات الطبيعة المستحدثة، على غرار الوباء أو التغيرات المناخية، لتقدم بكين "أوراق اعتمادها" أمام العالم، باعتبارها قوى قادرة على حفظ السلم والأمن الدوليين، في ظل تهديدات تبدو خطيرة، ربما تأكل الأخضر واليابس حال استمرار الفشل الدولي في احتوائها في أسرع وقت ممكن.
التراجع الكبير في الدور الأمريكي، في التعامل مع الصراعات الدولية، وفي القلب منها الأزمة الأوكرانية، يعكس تغييرا كبيرا في ميزان النفوذ العالمي، في ظل تعددية القوى المؤثرة، والتي يمكنها القيام بدور أكثر فاعلية ونجاعة في التعامل مع الأزمات، خاصة وأن النهج الذي اعتمدته واشنطن في سنوات "الهيمنة" الأحادية قام في الأساس على ما يمكننا تسميته بـ"تجميد" الصراع، عبر تحقيق قدر من المهادنة وليس "وأده"، عبر الاحتفاظ به في حالة معينة، دون تصعيده، وهو ما يبدو في العديد من النماذج، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي شهدت مراحل طويلة من المفاوضات، على نطاق زمني متسع، دام لعقود، دون حلحلة في ملفات الخلاف الرئيسية، مما ساهم في تفاقم الأمور بين الحين والأخر، دون أن تصل إلى مرحلة الحرب الشاملة، الأمر نفسه ينطبق على الحالة السعودية الإيرانية، والتي شهدت حلقات متنوعة من الصراع، دون الانغماس في معركة مباشرة.
وفي الواقع تمثل حالة الإبقاء على وتيرة الصراع، في مرحلة معينة، في جوهرها، جزء لا يتجزأ من استراتيجية الولايات المتحدة، والتي اعتمدت نهج يقوم في الأساس على إثارة "المخاوف" في مناطق الحلفاء، حتى تبقى حاجتهم الدائمة لها، إلى الحد الذى اتجهت فيه واشنطن نحو ما يمكننا تسميته بـ"خلق الصراعات"، على غرار "صراع الحضارات"، والذي تجلى في أبهى صوره في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، والتي استثمرتها إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش، لتخويف الحلفاء الأوروبيين، جراء احتمالات استهدافهم في أراضيهم، على غرار ما حدث على الأراضي الأمريكية، لتتمكن في نهاية المطاف من توريطهم في ميدان المعركة، سواء في أفغانستان أو العراق، في الوقت الذي وضعت فيه على عاتقها دور القيادة.
ولكن تتجلى الرؤية الصينية، القائمة على ما يمكننا تسميته استراتيجية "وأد الصراع"، في الدور الذي قامت به في إطار الحالة السعودية الإيرانية، عبر الاتفاق الذي من شأنه تقديم ضمانات متبادلة، حول احترام الجوار، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، والعمل معا لتحقيق الاستقرار الإقليمي في صورته الجمعية، وهو الأمر الذي من شأنه تحويل العلاقة من الصراع إلى المنافسة، عبر تعظيم المصالح المشتركة، وهو الأمر الذي ربما ساهمت فيه تفاقم التحديات بصورة كبيرة في اللحظة الراهنة على الساحة الدولية، والحاجة إلى تعظيم التعاون بين القوى المؤثرة، بدلا من العمل على تأجيج النزعات الصراعية.
ولعل تنامي التهديدات، على خلفية الأزمة الأوكرانية، وامتدادها للعمق الاستراتيجي لحلفاء واشنطن الأوروبيين، ساهم بصورة كبيرة في إثارة "نزعة" التمرد لدى قطاع كبير من دول القارة العجوز على النهج الأمريكي، الذي يعتمد استراتيجية "الإبقاء على الصراع"، مما يفتح الباب أمام "البحث عن بديل"، في الوقت الذي تتصاعد فيه الصين، حاملة نهج أكثر نجاعة، من شأنه تقديم حلول، تساهم في نطاق زمنى متوسط في "وأد" الصراع، في ضوء العديد من المعطيات، ربما أبرزها عدم قدرة واشنطن على القيام بأي دور في الأزمة الأوكرانية باعتبارها "طرف أصيل" في الصراع القائم حاليا وبالتالي فقدانها لأي معايير الحيادية، ناهيك أن الوصول إلى حلول يبدو متعارضا إلى حد كبير مع الاستراتيجية الأمريكية المشار إليها، ناهيك عن قوة العلاقة بين موسكو وبكين، وبالتالي إمكانية الأخيرة في التأثير على الجانب الروسي لتقديم قدر من التنازلات، في العديد من الملفات، ناهيك عن نجاحها في الاحتفاظ بقدر كبير من الاعتدال في مواقفها منذ بداية الأزمة، عبر الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن لصالح أيا من أطراف الأزمة، رغم الحديث المتواتر من قبل الغرب حول العلاقة القوية التي تجمعها بروسيا.
يعد التوافق الأوروبي حول الصين، إن حدث، بمثابة فرصة كبيرة للقارة العجوز، ليس فقط لاحتواء أزمة تبدو طويلة الأمد، وإنما أيضا في تغيير النهج القائم على "التحالفات" التقليدية، والتي دفعتها نحو العمل تحت "قيادة" حليف واحد، واستبدالها بمنهج "الشراكة"، والذي يعتمد العلاقة بين القوى الدولية على أساس متوازن، ناهيك عن إمكانية توسيع التعاون الاقتصادي والتجاري، بصورة أكبر مع قوى بحجم الصين، وهو ما من شأنه تعويض الفراغ الناجم عن السياسات التي تبنتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، والتي أضرت كثيرا باقتصادات الدول الأوروبية.
وهنا يمكننا القول بأن الصعود الصيني، ونجاح مبادرتها في الشرق الأوسط، يمثل بادرة مهمة لحل الأزمة الأوكرانية، شريطة قبول أوروبا لهذا الدور عاجلا وليس آجلا، خاصة وأنها تمتلك العديد من الأدوات التي تبدو غائبة عن واشنطن، ربما أبرزها الاختلاف في الرؤية مقارنة بالولايات المتحدة، عبر تقديم حلول للصراعات، تمهيدا لإنهائها، وهو ما يمثل تحولا ربما يمتد إلى العديد من الأزمات الأخرى حول العالم، التي طال أمدها دون حلول جذرية، في ظل حقبة الهيمنة الأحادية.