فضل الأم
عصام محمد عبد القادر
فضل الأم
حثّنا القرآن الكريم على برّ الوالدين والإحسان إليهما، وجعله رديف عبادته وطاعته، فقال سبحانه:(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) الإسراء: 23. واستفاض في شرح وتفصيل أحد أهم أدوار الأم، فقال جلّ شأنه: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن" وقال تباركت أسماؤه: "ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، وقال سبحانه: "والوالدات يُرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد ان يتم الرضاعة"؛ فهي التي تحمل، وتَضَع، وتُرضِع، وتفطِم، مُلفِتًا إلى أهمية وخطورة هذه المراحل من حياة الإنسان، وبالتالي إلى خطورة دور الأم فيها، فسلامة الجنين تعتمد على مستوى صحة أمه حال حملها، فإذا ما وضعته، أرضعته مع كل قطرة لبن قيمًا وسلوكًا ومبادئ وعادات، فلا عجب أن نجد رسولنا الكريم قد كرر في وصيته الأم ثلاثًا، فقال: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك".
إن بناء وعمارة المجتمع بأسره يقوم على الأم؛ فبدونها لا تقوم لبناته التي تُمثّل ثروته البشرية، وتقوم على سواعدها النهضة والتقدم، بل وضمانة استمرار الحياة بكل مكوناتها وأركانها؛ فهي التي تحتضن وترعى وتُعلم وتبث الطمأنينة في نفوس أبنائها ومن تعول، وهي التي تزرع الخير وتحث عليه، وتشحذ الهمم نحو البر والعمل.
وشعوب الأرض قاطبة تعترف وتقر بفضل الأم، وتكُن لها مشاعر التقدير والحُب، وتحتفي بها وبما تقدمه من تضحيات لأجل جيل يحقق آمال وطموحات الأسرة والمجتمع والعالم بأسره؛ فهي لا تنتظر مقابل تجاه ما تقوم به؛ فرؤيتها لأبنائها سعداء تُعد بمثابة الجائزة الكبرى التي تتشوق إليها وتملأ قلبها غبطة ورضى.
ويهنأ المجتمع بنتاج ثمرة الأم التي ساهمت في تربية الأبناء تربية سوية، تحضهم على الولاء والانتماء لأوطانهم، وتحثهم على الدفاع عن مقدراته والحفاظ على مكتسباته والعمل على رفعته، وتُبعد عن أذهانهم كل صور الفساد والضرر لمكوناته، ليُستبدل بعشق كل ما هو جميل ونافع، وتحرص على تأصيل الخير في النفس قولًا وفعلًا، وتدعم مقدرة أبنائها على التمييز بين الغثّ والثمين لصالح النفس والغير.
وما تمتلكه الأم من صفات راقية محمودة تُكسب بالضرورة أبناءها المناعة ضد منابع الفساد والشرور والأحقاد التي تلحق بالنفس، وتستبدلها بربوع الخير والنوايا الحسنة التي تؤهلهم للبناء والعمل المستدام والنفع الجامع، وترتقي بوجدانهم ليمتلكوا مقومات جودة الحياة والرضى عن النفس ومن غيرها، وتحثهم على المثابرة لكل ما يلم بهم من نوازل الدهر؛ ليتقبلوه تقبلًا حسنًا.
وتؤدي الأم العظيمة دورًا كبيرًا في الحفاظ على الترابط الأسري الذي يستشعر الأبناء بفخر الانتماء إلى أسرته الصغيرة والكبيرة، مما يشيع الأمن والأمان والاطمئنان على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع بكامله؛ إذ يتوافر المناخ الداعم للبناء والنهضة، ويؤكد على أهمية الأواصر وآليات الحفاظ عليها بين مكونات الأسرة الواحدة.
وتضرب الأم النموذج الذي يحتذى به في العطاء لجميع أفراد أسرتها كونها المحطة الرئيسة ليس لسد الاحتياجات البيولوجية فقط، بل في الدعم المالي إن امتلكته؛ فالجميع يطلب منها بحب وجسارة لا يخشى الرفض أو الاعتراض؛ لأنها بوابة الخير والمنح والمساندة التي لا تنغلق على الدوام، وفي الغالب تقدم احتياجات أبنائها غير الملحة على احتياجاتها الملحة، وهذا ما يؤكد الوفاء دون مقابل والعطاء بلا حدود، وما يوجد مناخًا للتوافق النفسي والاجتماعي بين أعضاء الأسرة.
وتظل الأم ملهمة لامتلاكها الوجدان المغمور بالحنان؛ فتشكل وطنًا لكل من ينتسب إليها، ولكل من يرتبط بها برباط إنساني؛ لأنها تُشكل مصدرًا لا ينضب من الدفء، وسياجًا للحماية، وأمنًا وأمانًا لمن يتقرب منها ويعيش في كنفها، ونبراسًا للهداية، وحاوية للطمأنينة لمن تقوم على رعايتهم.
ورغم ضغوطات الحياة المتغيرة والمتقلبة والتي يقع مُعظمها على كاهلها؛ إلا أنها تبدو هادئة النفس، طيبة الطباع، مستقرة المشاعر، تحاول التطلع لمستقبل مشرق زاهر يحمل الخير لمن تعول وترعى، لا تدع للخوف أن يتسلل إلى مسكنها، أو نظرة تشاؤم تعتلي فكرها، وليس للكره أو الحقد مكانًا؛ إذ لم يبق في قوس الشر منزع في وجدانها النقي.
وتؤدي الأم مهمة دقيقة يصعب أن يقوم بها غيرها؛ حيث تسهم في تعديل سلوك الأبناء بصورة إرشادية مقصودة، تعتمد فيها على الطرائق الوسطية في الحث على الفضيلة وتجنب الرذيلة والسلوك غير القويم، داعمة بمواقف يستلهم منها الأبناء العبرة والعظة، وفي الحقيقة فالأمر غاية في التعقيد؛ إذ إنها تطبق مبادئ نظريات تربوية دون مطالعة لها؛ فتقوم بتصويب معلومات أبنائها، وتؤكد على المعرفة الصحيحة للقضية التي يتم تناولها، وتؤكد على السلوك الصحيح من خلال تقديم النموذج الذي يحاكي مجريات تلك القضية، ومن ثم تدعم الوعي في الاتجاه الصحيح؛ لتخرج لنا جيلًا يمتلك الوعي الإيجابي ويساعد في بناء المجتمع بكل ما يملك من مقومات ومهارات نوعية.
وتتسم الأم بتوافر جينات التفاؤل والأمل لديها؛ إذ يتطلع خيالها الراقي ليفوق التمني؛ حيث تبذل في ضوء تحقيق ذلك الغالي والنفيس لتغرس في أبنائها ما لديها من طموحات وآمال وأماني لتضع لبنات التوافق النفسي والثقة بالذات عبر تحقيق الهدف، ومن ثم يُعد هذا أساس للتخطيط الاستراتيجي والرؤية المستقبلية التي تنطلق من الحاضر نحو مستقبل زاهر لا يشوبه اليأس أو الإحباط بقدر ما يواجه من معوقات وصعوبات وتحديات متغيرة.
وتمتلك الأم الرشيدة مقومات التواصل الكلي مع ذوي أرحامها وأقاربها؛ فببشاشة وجهها، ولغتها الراقية، وحُبها العميق، وإخلاص نواياها، وترحابها وكرمها الطائي تستقبل كل مُقبل وآت لمسكنها، لتقدم كل ما تملك بغية الإسعاد واللقاء المتكرر، لتتعضد العلاقات بين الأفراد والجماعات، ولو على حساب راحتها وصحتها؛ فهي من تُضحي دون مقابل مادي، ويكفيها بهجة وسعادة من حولها؛ ليصبح الترابط والاحتواء بديلًا مقبولًا عن التفكك والتشرذم ودواعيه المعلومة على مستوى الفرد والمجتمع.
وبدون شك فإن عطايا الأم لا تنضب وما يكون لها؛ فهي منبع التفاؤل والحنان والمحبة، وهي من تتحمل المسئولية داخل مسكنها، بل وخارجه إذ ما كانت تعمل، فتبذل الجهد المضاعف، لتحقق المعادلة الصعبة؛ حيث تُلبي احتياجات أسرتها، وتنجز أعمالها بروية وإتقان، وتسهم في توفير المعيشة الكريمة لمكونات أسرتها؛ لذا تنال الرضى المستحق من ربها، وهو غاية المراد والمسعى.
والأم برغم تحملها الشدائد إلا أنها تشاطر غيرها من أفراد أسرتها همومه ومشكلاته، وتُقدم له من الدعم المادي إن استطاعت لذلك سبيلا، ومن الدعم المعنوي ما يخفف الحمل ويزيل الهم ويقوي العزيمة، ويشد الأزر، وما تحمله الأم بين جنباتها من حنان يعضد من مقدرة رب الأسرة على تحمل المشاق العديدة والمتغيرة؛ ليستمد من خلالها الثبات والصبر ومواصلة الجهود التي تستهدف رفاهية وجودة الحياة لكامل الأسرة.
ونظرًا لأن الأم تمتلك البصيرة وتحمل على عاتقها راية الكفاح والجهاد على مسرح الحياة التي تمتلئ بالتحديات والمشكلات المتجددة مثل النهر الجاري؛ فإنها تتصف بالهدوء وسط الزخم، وبالتريث أثناء تفاقم العصبية والتوتر، وبالصبر حال وقوع ملمات، وبالفطنة حال المواقف الشائكة والمفاجئة، وبالمقدرة على التحمل حال إجهاد الجميع، وبالإقدام حال الإخفاق من قبل الآخرين، والإصرار على إنجاح أفراد أسرتها في مسيرتهم برغم التحديات والصعاب المتعددة، وتتحمل وزر الإخفاق برغم ما تقدمه من تضحيات؛ ذلك لأن عطائها ممتد مثل شروق الشمس في سحائب الفضاء.
وتحمل الأم خصالًا خصها الله بها، ومنها تجدد الهمة والنشاط؛ لتستكمل مسيرتها بثبات وقوة مستمدة من رغبتها في حب وإسعاد الآخرين؛ فجهودها لا تتوقف، ومحبتها لا تفتر؛ لإيمانها بدورها ورسالتها التي خُلقت من أجلها؛ لذا فإن تكريمها والاحتفاء بها واجب مستحق، والبر التام الذي لا ينقطع لها في الحياة وبعد الممات.
ويصعب أن تنال الأم قدرًا من الراحة وهناك من يُعاني التعب، أو المرض، أو الإجهاد، أو الأرق؛ فحري بها أن تسهر على راحة الغير، وتقدم الرعاية في صورها المتباينة، وتعمل على تهيئة المناخ الداعم للعلاج، وتلبي كافة الاحتياجات الطبية وغير الطبية التي يطلبها الآخرون، كما تبتهل بالدعاء الصادق لرب السماء أن يستجيب للطب منه، وتشكره على نعمه التي لا تنقطع.
إن برّ الأم في المحيا والممات كائن في الحُب الخالص لها والاحترام الجم لشخصها، والرعاية التي لا تنقطع، والعرفان بالجميل عبر سلوكيات تحمل المعنى؛ ليمثل فرض عين على كل إنسان يقدر ماهية الأمومة، ويدرك أهميتها، وأنها السبب في وجوده، فلا مناص عن برّ مستدام بمزيد من الكرم والإحسان والطاعة، وطلب الرضا، والاعتراف بالفضل دومًا، وفق ما تمتلكه من خصال ومحامد وصفات جعلتها في المرتبة الأولى لهذا البر المستحق.
كيف لا وصلاحها يشكل صلاح المجتمع بأسره، كيف لا وهي التي تُعد جيلًا يحافظ على ثقافته ويحمي قيم مجتمعه ويقدم الولاء لتراب وطنه، كيف لا والمعمورة لا تصلح بدونها؛ فهي الحياة التي يستلهم منها الجميع مقدرته على البقاء.
ولا يسعني في مقام ذكر فضل الأم إلا أن أقول إن خواطري مع أمي رحمة الله عليها لا تنقطع، وحبي وبري لها مستدام ما حييت. فاللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا، وأعنا على مواصلة برهم في مماتهم، وربِّ بفضلك وجودك أبناءنا على برِّنا في الدارين ... اللهم آمين.