ثروت الخرباوى يكشف الحقائق الخفية فى (تركة الرسول)
محمد حبوشه
ثروت الخرباوى يكشف الحقائق الخفية فى (تركة الرسول)
انتظر لا تقلب تلك الصفحة سريعا، فما سيأتى فيها هو قلب هذا الكتاب، والقلب الذى أقصده هو المنهج، فأنا فى هذا الكتاب أبحث عن تركة الرسول المخفية!، لا تتعجب فللرسول تركة مخفية! والعجيب أننا نبصرها ولكننا لا نراها، نقترب منها ونحن أبعد ما نكون عنها، نبكى من أجلها ثم ننصرف عنها، وهذا من أعجب ما كان وما يكون من بنى المسلمين، ولذلك قررت أن أخوض معكم غمار تلك لمغامرة الغريبة، مغامرة البحث عن تركة الرسول الحقيقية وإظهارها للدنيا رأى العين والفؤاد، ولا يغرك الشيطان ويقول لك مالنا وتركة الرسول، إنما هى لآله فقط.
هكذا قال الكاتب والمفكر الكبير ثروت الخرباوى كلامه هذا فى تصديره لمنهج كتابه الكاشف لحقائق "إخفاء تركة الرسول"، وهو ما اكتشفته عندما انخرطت فى قراءة هذا الكتاب الذى أظهر حقائق جديدة حول محاولات "إخفاء تركة الرسول"، ولقد أذهلتنى محاولاته العقلانية فى تفكيك المنهج المتطرف من جانب (الخرباوي)، وأدركت أنها ليست بالهينة فى مواجهة تشبع العقل الجمعى بأطروحات الجماعات الأصولية وخلطها، واستنادها إلى الآراء الدينية الموروثة لقدماء المحدثين والفقهاء، وتحولها إلى جزء أصيل من الإسلام والشريعة.
ويبدو طبيعيا جدا أن يقوم مفكر كبير مثل الدكتور "ثروت الخرباوي" بجهده البحثى العميق بتفكيك هذا المنهج المتطرف، فهو الذى قضى سنوات طويلة ظل القيادى السابق بجماعة "الإخوان"، وكان بمثابة رأس الحربة فى إسقاط النقاب عن غموض التنظيم السرى لجماعة "الإخوان"، وصولا إلى جهوده فى تفكيك البنية الفكرية لتيارات "الإسلام السياسي"، من خلال إصداراته المتعددة التى بدأها بكتاب "قلب الإخوان"، وكتاب "سر المعبد.. الأسرار الخفية لجماعة الإخوان"، وكتاب "أئمة الشر"، مروراً برواية "زمكان"، التى تناولت المظاهر السلفية، ورواية "مولانا الجوسقي"، المغلفة بالروح الصوفية،انتهاء بكتاب "إخفاء تركة الرسول".
والحقيقة أننى أرى أن (الخرباوي) وضع يديه فى كتابه الأخير "إخفاء تركة الرسول" على الكثير من الإشكاليات والقضايا التى مكنت تيارات "الإسلام السياسي" من التعمق فى المجتمعات العربية، وطرحت "إسلاماً" مختلفا عما أنزله الله على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم فقد اتهم الخرباوى منظرى "الفقه السلفى التقليدي" بتحريف مفهوم الدين، من خلال تغيير معانى النص القرآنى، وليس من خلال تغيير الكلمات ذاتها، وإنما من طريق استبدالها بفهم مخالف للمنهج السليم، وتبديل تركيبته القويمة من أجل خدمة المشاريع السياسية والأهداف المتطرفة، مبينا أن الأفهام التى استقرت عليها غالبية العقلية الجمعية للأمة، بعيدة تماما من الفهم الصحيح للإسلام، إذ إن تفسيرات القدماء ومواقفهم وأعمالهم، تمثل تراثهم من دون غيرهم، ولا يمكن تعميمه على أنه جزء من الإسلام.
تطرق كتاب "إخفاء تركة الرسول" إلى أن الإسلام الذى قدموه لنا عبر القرون ليس "الإسلام الحقيقي"، وأن جمهورا كبيرا من "الفقهاء" مارسوا نوعا من الإخفاء المتعمد من طريق التحريف للكلام عن مواضعه، فظهر أمامنا "إسلام الغزاوت والقتل والإكراه والحرق، والتعذيب"، ولتخفيف حدتها وضعوها فى سياق "الفتوحات"، وكانت سببا رئيسيا فى صناعة "الإخوان"، و"القاعدة"، و"داعش" وغيرهم، ولعل تفسيره هذا لمفهوم "الإسلام الحقيقي" يضع أيدينا من جديد على حقائق تلك الأفكار المتطرفة التى تبنتها جماعات العنف كذريعة لاتباع منهج التطرف فى تفسير النص القرآنى والأحاديث الشريفة على هواهم ووفقا لأهدافهم الخبيثة.
وبحسب صفحات الكتاب التى لاتزيد عن (175) صفحة من القطع الكبير أظهر "الخرباوي" منطقه الرصين تجاه تفكيك الخطاب الأيديولوجى للجماعات الأصولية، بحيث اعتبر أن المدارس الفقهية والقائمين عليها بدلوا الكثير من معانى القرآن خلال شروحهم المتعددة، ومن ثم ترتب عليها تغيير المقاصد، فـ "الكفر" لم يقصد به "عدم الإيمان"، وشتان ما بينهما من خلاف واضح وصريح، فضلا عن أن "الشرك" لم يقصد به الكفر كذلك، كما حرفوا معنى "الجزية"، وجعلوها إرثا تاريخيا ودينيا، وأخرجوها من سياقها كعقوبة زمنية موقتة ماتزال تترجع الأمة الأمة الإسلامية عواقبها الوخيمة حتى الآن.
"الخرباوي" فى كتابه الكاشف، اعتبر أن قدماء الفقهاء والمحدثين قرأوا النص القرآنى، وفقا لنسق لغوى معين، بناء على معارفهم البيئية والمجتمعية والإنسانية، من دون التفرقة بين "اللسان القرآني"، و"اللغة العربية"، وبالتالى أصبح العقل الجمعى أسيرا لفهم القدماء للشريعة والعقيدة، فى ظل تغير الأزمان والأحوال، ومن ثم نشأت الظواهر "المتأسلمة"، التى تعيش بعقلية ماضية سلفية، وبهذا يكون قد كشف اللثام عن الحقيقة العارية فى فهما للدين بناء على الموروث فى الذهنية الإسلامية حول أننا أصبحنا أسرى لفهم هؤلاء القدماء للشريعة والعقيدة.
وفى محاولاته الدؤوبة لخلخلة المكون الفكرى للتيارات الأصولية، دعا "الخرباوي" جاءت دعوته لتفتيح العقول المغيبة ونفض الغبار عنها إلى ضرورة إعادة قراءة النص الدينى والتحرر من قراءات السابقين، إذ إن الإسلام لم يمنح أحدا العصمة، ولم يعط لأحد قداسة فى تبليغ الرسالة إلا للنبى (محمد صلى الله عليه وسلم)، كما تمارس الجماعات المتطرفة ذلك بتبجيل قادتها الذين تضعهم فى منطقة القداسة والرهبنة، فلا يصح أن نطلق لقب "شيخ الإسلام"، ولا "حجة الإسلام" على أحد، ولا يمكن أن ننسب ما كتبوه من اجتهادات فقهية وعلومها، على أنها من صلب الشريعة وكيانها، تماما كما يروجون ذلك ليل نهار.
أعجبنى جدا أن "الخرباوي" فى كتبه (إخفاء تركة الرسول) أنه فرق بشكل واضح للأفهام بين الدين والانتماء، كاشفا فى الوقت ذاته أن العلاقة بالدين، قائمة على الإيمان وليس على فكرة الانتماء، متعمدا هدم ما رسخته مختلف الجماعات الأصولية من ربط الانتماء بالعقيدة وليس بالدولة والوطن، مثلما فعلت جماعة "الإخوان" والتيارات السلفية الجهادية التى نادت بالأممية الأصولية أو مظلة الخلافة الإسلامية المزعومة من جانبه لمآرب دنيوية لغرض خبيث فى أنفسه ليس إلا!
وفى طرح صدامى مع دوائر الإسلام الحركى، رأى الخرباوى أن "لا جزية فى الإسلام"، وأن الآيات الواردة فى سورة "التوبة"، تمثل حالة خاصة لفئة بعينها من دون غيرها، وأنها آيات نبوية وليست رسالية، أى أنها للنبى وقومه فى زمنه، وليست رسالة للمسلمين إلى قيام الساعة، ومن ثم حرفت عن موضعها، وأن الحديث فى فرضها يخالف المنهج القرآنى فى عدم إكراه الناس على الإسلام والإيمان، وفقاً لقوله تعالى "ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، وهذه رؤية عقلانية من جانب مفكر قضى جل حياته فى البحث والتقصى، ليخرج لنا برؤية عقلانية تصب فى صحيح الدين.
وهو ما بينه فى قوله أن آية "الجزية" فرضت حينها على فرقة من "الذين أُوتوا الكتاب"، وثمة فروق كبيرة بينهم وبين "أهل الكتاب"، وبين "الذين آتيناهم الكتاب"، وأنها كانت غرامة مالية طارئة على "نظام سياسي"، متمثل فى قادة "الروم والغساسنة"، الذين اعتدوا على أرض العرب فى "مؤتى وتبوك"، وليس على شعوبهم، وتتجلى تلك الرؤية فى تفسير لإشكالية الناسخ والمنسوخ فى القرآن الكريم، فقد نفى "الخرباوي" فى إطار اجتهاداته الفكرية، أن يكون هناك نسخ فى القرآن، بمعنى إلغاء آيات واستبدالها بآيات أخرى، معتبرا أن آية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، تم تحريف معناها، وأنه لا يليق أن نقول إن الله قد أقر آيات وأحكاما ثم غيرها ونسخها، وأبقى عليها لفظا من دون تطبيقها، فى إطار تجربة صلاحيتها من عدمها، مبينا أن أية النسخ الواردة فى سورة "البقرة" خاطبت مباشرة بنى إسرائيل، وقصد بها إلغاء آيات القرآن الكريم لبعض الأحكام الواردة فى آيات التوارة والكتب السابقة.
لقد حرك "الخرباوي" المياه التى ظلت راكدة لسنوات طويلة فى بحيرة آسنة حول مفاهيم الرقيق والعبيد والإماء الواردة فى آيات القرآن الكريم، التى استغلتها التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم "داعش"، استنادا للمدارس الفقهية المختلفة التى تضعها فى مرتبة "الحلال" والإقرار حتى هذه اللحظة، كما ظهر لنا فى منهجهم المتطرف حول مفهوم (السبايا) التى يحللونها لأنفسهم بما يخالف منطق الدين الصحيح، وهو مفهوم قد استشرى كثيرا فى غزواتهم المذعومة على أبناء المسلمين فى "سوريا والعراق وليبيا واليمن" وغيرها من مناطق بسطوا عليها نفوذه بقوة جائرة.
حسنا أوضح "الخرباوي" أن الرق محظور منذ الهجرة النبوية للمدينة، بمعنى أن ما كان قد نشأ قبل ذلك فهو صحيح وفقا لعدم جواز تطبيق "القاعدة الجديدة" بأثر رجعى، داعما رؤيته واجتهاده بقراءة مختلفة لآيات القرآن الكريم، ومفرقا فى ذلك بين "اللسان العربي"، و"اللغة العربية"، وموضحا أن اللسان نفهمه من القرآن، لأن القرآن نزل بلسان عربى مبين، وليس بلغة عربية، وأن اللغة من اللغو ومملوءة بالمترادفات اللفظية، بينما اللسان لا يعرف المترادفات، ومن ثم يضع كل كلمة فى معنى خاص بها من دون غيرها، وهنا تبدو رجاحة عقله المستنير.
وتساءل "الخرباوي" فى طى صفحات كتابه (إخفاء تركة الرسول": كيف للإسلام الذى جاء ليحرر البشر من العبودية ويجعلها لله رب العالمين، أباح الرق والعبودية؟ مؤكدا أن الإقرار بإباحة الرق يمثل تحريفا عن النهج السليم، وزيغا واتباعا للأهواء، وأن الإسلام أجاز محاربة الأعداء دفاعا عن النفس، وليس اعتداء واحتلالا لغيرهم، ومن ثم ما بنى على فهم باطل فهو باطل، ناهيك عن أن "الأسر" وأحكامه الشرعية، تختلف تماما عن التملك والعبودية وتجارة الرقيق.
وانتهى "الخرباوي" صاحب الرؤية الموضوعية المسنيرة إلى تقسيمات الفقهاء لمعانى ومصطلحات "الجهاد"، من أنه "جهاد دفع"، و"جهاد طلب"، نافيا شرعية "جهاد الطلب"، إذ أن القرآن أقر "جهاد الدفع" فقط، لتعلقه بالدفاع عن البلاد من المعتدين، ومن ثم لا يجوز التعدى على أى بلد فى العالم تحت مسمى "الفتح"، أو"الغزو"، وأن ما أطلقوا عليه "فتوحات إسلامية" هى فى حد ذاتها "غزوات عربية"، قد يكون لها مبررها السياسى والإقليمى فى زمنها، ولكنها ليست دينية، ولا ينبغى أن تنتسب للإسلام من الأساس كما رسخ فى فهم العامة والبسطاء.
ظنى أن أطروحات كتاب "إخفاء تركة الرسول"، تمثل خطوة فى مواجهة وتفكيك مشروع التطرف والإرهاب، على أرضية فكرية بعيدا عن الإطار الأمنى والسياسى، حيث قدم المؤلف منهجا مختلفا فى تطوير أدوات ومفاهيم الخطاب الدعوى، وتجديد الرؤية الدينية المتماسة مع نظريات الإسلام الحركى، وهو فى النهاية جهدا يشكر عليه بعدما اختطلت المفاهم وأربك هؤلاء المتطرفون عقلية الإنسان المسلم، الذى يعانى الأمرين حاليا فى ظل ظروف العصر وتداعيات الأيام الصعبة التى نعيشها الآن.