زمن الحقبة " الصيروسية " الجديدة
هل ينتاب واشنطن بنوع خاص، وحلف الناتو بوجه عام، حالة من القلق المتصاعد، من نشوء وارتقاء حلف جديد، بين الصين وروسيا، يمكننا أن نطلق عليه الحلف "الصيروسي".
في إشارة لا تخطئها العين للتقارب الذي تزداد وشائجه بين الصين روسيا، لا سيما بعد زيارة الرئيس شي جين بينغ لموسكو خلال الأيام القليلة الفائتة.
الذين تابعوا التصريحات الأمريكية التي واكبت لقاءات بوتين وشي، يدركون أنه ليس من مصلحة واشنطن، قيام بكين بوساطة ناجحة، بهدف إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية.
تؤمن الصين بأن من مصلحتها وضع حد سريع لتلك المواجهات العسكرية العبثية، سيما أنها كانت سببا مباشرا في إحياء الناتو مرة جديدة، بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة شهادة وفاته من جراء الخلافات بين جانبي الأطلسي.
الصينيون -وكما تشير صحيفة "التايمز" البريطانية- يدركون أن هناك فجوة جرت بها المقادير بينهم وبين أوروبا، بعد انتشار فيروس كوفيد-19، وقد كانت رهاناتهم ماضية تجاه تعميق العلاقات السياسية والاقتصادية مع القارة العجوز.
بات الأوروبيون على قناعة بأن الصينيين يدعمون الروس في حربهم ضد أوكرانيا، وبالتالي كلما طال زمن الحرب، تعمق الرفض الأوروبي للصين.
هناك جانب اقتصادي في دوافع الصينيين لإنهاء القتال من موسكو إلى كييف، وهو ضعف الطلب في الأسواق التي تقوم الصين بتصدير منتجاتها إليها.
فيما يطفو على السطح بُعد آخر، يمثل هاجسا عسكريا لبكين، ونعني هنا توجه اليابان إلى مزيد من العسكرة، وتنامي صيحات الاستعداد لمواجهات قادمة مع بكين.
عطفا على ما تقدم، فإن اتساع رقعة الحرب يدعو واشنطن لإرسال المزيد من شحنات الأسلحة لتايوان، ترقبا للتدخل العسكري الصيني الذي تدعيه واشنطن، بل تستعد له.
تبدو فلسفة هنري كيسنغر، للتفريق بين بكين وموسكو، قد أخفقت مع الدبلوماسية الأمريكية التي يقودها أنتوني بلينكن، القليل الخبرة مقارنة ببطريرك السياسة الأمريكية.
نجح كيسنغر في أوائل السبعينيات في فتح ثغرات في الجدار الصيني، وقد كان الهدف هو إضعاف الاتحاد السوفياتي، أما اليوم فتبدو القوتان الكبريان قد تعلمتا الدرس جيدا، فيما الرغبة الأمريكية في بسط نفوذها حول العالم عززت من مولد تحالف جديد، ولو بصورة براغماتية في الوقت الحاضر.
ليس من مصلحة بكين أن تجد موسكو بجوارها منكسرة ضعيفة؛ إذ يعني ذلك بالنسبة لها المزيد من القلاقل الحدودية من جهة، وفرصة غربية لإيجاد بديل لبوتين، وقد تكون الطامة الاستراتيجية للصينيين، لو وجد سيد للكرملين، على غرار غورباتشوف مرة أخرى.
تعني هزيمة بوتين في حربه مع الناتو بوكالة أوكرانية، أن تصحو بكين نفسها على مواجهات مفتوحة مع قوى غربية تقليدية لا تحمل لها خيرا.
تبدو الملفات التي يمكن أن تستخدم مثل كعب أخيل في الجسد الصيني متعددة، ولا تقتصر على جزيرة تايوان التي تقطع حكومة شي جين بينغ بأنها جزء من التراب الوطني الصيني، والذي لا بد من عودته.
هناك الخلافات الصينية الأمريكية حول الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي، إضافة للملف الأحدث الذي يمثل قلقا بالغا لمستقبل الصين، والمتمثل في حلف "أوكوس"، حيث الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية لدى أستراليا، يمكنها أن تطول الحواضن الصينية.
للمرء أن يعدد خواصر رخوة في البطن الصيني، من عينة الحدود الملتهبة مع الهند عند جبال الهيمالايا بنوع خاص، ومن دون أن نغفل الصراع الذي يبدو أنه على أبواب بكين من جديد، بسبب الصحوة العسكرية اليابانية، والدعم الأمريكي المستمر والمستقر لليابانيين.
تجد الصين نفسها في مواجهة ما يشبه الطوق، ولا يبقى لها من حليف، ولو مرحلي، ومن غير أدنى التزام بمفهوم الزواج الكاثوليكي، سوى روسيا التي تعاني من تكالب الغرب عليها.
يوماً تلو الآخر، تتعزز روابط العلاقات الروسية - الصينية، وحتى قبل الاتفاقيات الأخيرة التي تم توقيعها بين بوتين وشي، خلال زيارة الأيام الماضية، فقد وصل منسوب العلاقات إلى أعلى مستوى.
تبين الأرقام أن الصين تعتمد في تطوير جيشها على أسلحة روسية، ففي الفترة ما بين 2016 -2021، بلغت الأسلحة الروسية المصدرة للصين 81% من التسليح الحديث للصينيين، وهو أمر طبيعي في ظل رفض الأمريكيين والأوروبيين تزويد بكين بأي أنظمة مسلحة متطورة.
على الجانب الآخر، لا تنفك الصين توفر لروسيا "الرقائق الدقيقة" التي تحتاج إليها موسكو في صناعاتها العسكرية.
نجحت واشنطن في إبطال مفاعيل الحلف الأوراسي، أي الرؤية القائلة بالتعاون الخلاق ما بين روسيا وأوروبا، لكن العداء للفوقية والنفوذ الأمريكيين، لا سيما في شرق آسيا، سيعزز حكما من الحلف "الصيروسي"، لتجد واشنطن نفسها أمام سبيكة من الإمكانات العسكرية والقوة الاقتصادية تغير شكل العالم.
أهلا بكم في عالم الحقبة "الصيروسية" الجديدة.