نص البشير الابراهيمي عن المعلمين
نص البشير الابراهيمي عن المعلمين، أي أبنائي المعلّمين / للشيخ المربّي محمّد البشير الإبراهيمي رحمه الله، أي أبنائي المعلّمين إنكم في زمن، كراسي المعلّمين فيه أجدى على الأمم من عروش الملوك، وأعود عليها بالخير والمنفعة. وكراسي المعلّمين فيه أمنع جانبًا وأعزّ قبيلًا من عروش الملوك: فكم عصفت العواصف الفكرية بالعروش، ولكنها لم تعصف يومًا بكرسي المعلم.
إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمّة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمّة بين أيديكم، سلّمتهم إليكم أطفالًا، لتردّوهم إليها رجالًا، وقدّمتهم إليكم هياكل لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملأوها بالفضيلة والمعرفة
نص البشير الابراهيمي عن المعلمين
إنكم رعاة، وإنكم مسؤولون عن رعيتكم. وإنكم بناة، وإن الباني مسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف.
إن من الطباع اللازمة للأطفال أنهم يحبّون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر. فواجب المربّي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسألهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة. فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة- طريقة الترغيب- حبّب إليهم المدرسة والقراءة والعلم. وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ. وكثيرًا ما رأينا الصغار الذين يربيهم معلّموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تربه بقسمه وبمعلّمه، ويباهي زميله في مدرسة أخرى بمدرسته، كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت. وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.
ليحذر المعلّمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلّمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة. إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق، وتغرس فيهم الجبن والخوف، وتُبغض إليهم القراءة والعلم. وكل ذلك معدود في جنايات المعلّمين الجاهلين بأصول التربية.
وليدرس المعلم ميول الأطفال بالاختلاط بهم، وليكن بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزّع بشاشته ويزرع بينهم نصائحه، ويردّ الناد منهم عن المحجة برفق. إن درس الميول يمكّن المعلم من إصلاح الفاسد منها، ومن غرس أضدادها من الفضائل في نفوسهم. وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا … ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين.
أيها المعلّمون الكرام
إن البيت عند الأمم الحية هي أخت المدرسة. كلتاهما مكمّلة للأخرى، فالتلميذ بينهما يتقلّب بين عاملين من عوامل التثقيف والتهذيب. أما البيت عند أمّتكم فهي ضرة المدرسة، ما تبنيه هذه تهدمه تلك، وما تزرعه هذه تقلعه تلك. لأن قعائد البيوت جاهلات. وقعائد البيوت هنّ قواعدها، وويل لبيوتنا من هذه القواعد ما دمن جاهلات. ووارحمتا لكم من هذه الحالة وهذا الموقف، ولا أب يؤيّد ويناصر، ولا أم تعين وتؤازر.
إذا كان الأمر كذلك فانظروا – يا رعاكم الله- أي عبء ألقته المقادير على كواهلكم، وأي واجب تؤدّونه لدينكم ولغتكم وأمّتكم، وأي عهد في أعناقكم يجب أن توفوا به لها.
ههنا توقظ الليالي هاجعها، وههنا تجافي الجنوب مضاجعها، وههنا تسمو نفوس، وتسف نفوس، وههنا تنسى المادة الخسيسة حتى كأنها ليست من هذا الوجود.
المرأة في الإسلام
“وجاء الإسلام فنبَّه على منزلتها، وشرفها، وكرم جنسها، وأعطاها كلَّ ما يناسب قوَّتها العقلية، وتركيبها الجسمي، وسوَّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك استقلالاً؛ تشريفاً لها، وإبرازاً لشخصيتها، ولم يجعل للرجل عليها سبيلاً في كلِّ ما يرجعُ إلى دينها وفضائلها، وراعى ضعفَها البدني بالنسبة للرجل، فأراحها من التكاليف المادِّيَّة في مراحلِ حياتها الثلاث: من يوم تولد إلى يوم تموت: بنتاً وزوجاً وأماً، فأوجب على أبيها الإنفاق عليها وتأديبها ما دامت في حِجْره إلى أن تتزوَّج، وهذا حقٌ تنفرد به البنت على الابن الذي يسقط الإنفاق عليه ببلوغه قادراً على الكسب، فإذا تزوَّجت انتقل كلُّ ما لها من حقٍّ أدبي أو مادي من ذمة الأب إلى ذمة الزوج، فتأخذ منه الصداق فريضة لازمة، ونِحْلَةً مسوَّغة، وتستحق عليه نفقتها ونفقة أولادها منه بالمعروف، فإذا خلت من الزوج ولها أولاد مكتسبون وجبت الحقوق على أولادها، ولا تُنفق شيئاً من مالها إلا باختيارها.
ووصايا القرآن والسنَّة وأحكامها في برِّ الأمهات معروفة، وهي أظهر من الشمس؛ فالإسلام أعطى المرأة وأولادها من الإعزاز والتكريم ما لم يُعطها إياه دينٌ آخرٌ، ولا قانونٌ وضعيٌّ، وأعطاها حقَّ التصرفِ في أموالها، وحقَّ التملك من دون أن يجعل للزوج عليها من سبيل، وأحاطها بالقلوب الرحيمة المتنوِّعة النوازع، المتلوِّنة العواطف: قلب الأب وما يحمل من حنان، إلى قلب الزوج وما يحمل من حب، إلى قلب الولد وما يحمل من برٍّ ورحمة؛ فهي لا تزال تنتقل من حضن كرامة وبر إلى حضن كرامة وبر إلى أن تفارق الدنيا، وبين المهد واللحد تتبوَّأ المراتب الكاملة في الإنسانية.
نرى من هذه المعاملة الصريحة للمرأة في الإسلام أنه سلَّحها بأحكام قطعية، وحماها بتشريع سماوي عادل، ولم يكلها إلى طبائع الآباء الذين يلينون ويقسون، ولا إلى أهواء الأزواج الذين يرضون ويغضبون، ولا إلى نزعات الأبناء الذين يَبرُّون ويعقُّون، وإنما هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ، لا تدور مع الأهواء والعواطف والنزعات وجوداً وعدماً.
ولا يَنْقُضُ علينا هذه الأصول شُذاذُ العصور المتجاوزون لحدود الله الخارجون عن الفطرة الصحيحة كمسلمي زماننا الذين منعوا المرأة المسلمة كلَّ أو جُلَّ حقوقها، وحسب هؤلاء أنهم ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا المرأة، وأنهم هدموها، فهدمتهم من غير قصد في أبنائهم، وأفسدوا كونها، فحُرموا عونها”
آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي
حب الله وتجيد الإيمان.
الإنسان بفطرته محبٌّ وأسير لمن أسدى إليه إحسانًا، ويكون الحب أشدَّ عندما تعظم النِّعم، وأعظم النِّعم: النعم الباقيةُ التي لا تنفد ولا تبيد، ولا تُعَدُّ ولا تحصى، وهذا النوع من النِّعم لا يجده البشر إلا في خزائن الله، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:
ولقد عدَّ لنا القرآنُ كثيرًا من النِّعم على سبيل الإجمال في مواضعَ قليلةٍ، وفصَّل في مواضعَ كثيرة؛ حتى يتركَ للقلوب والعقول مساحةً من التدبر والتفكر في هذه النعم التي بدورِها تجدِّد الإيمان، وتزيده في القلب.
ومن أمثلة مواضع الإجمال قولُه تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما مواضع التفصيل، فمنها قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32- 34
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. . . إلى غير ذلك من الآيات، ويكفي في هذا الموضع سورةُ الرحمن، وسورة النِّعم (النحل).
هذه النعم تستوجب الشكرَ، والشكر الحقيقيُّ يترجم في صورة عمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13.
وحبُّ الله من أعلى المنازل التي تحرِّك الإيمانَ في القلب، وتزيده قوة، وهي رُوح الإيمان والأعمال، فإذا خلَتِ القلوبُ منها، فهي كالجسد الذي لا رُوح فيه، يقول العلامة ابن القيِّم عن منزلة المحبة: “وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون.وبروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قُوتُ القلوب، وغذاء الأرواح، وقرَّةُ العيون، وهي الحياةُ التي من حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي من فَقده فهو في بحار الظلمات، والشِّفاءُ الذي من عُدِمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعَيشُه كلُّه همومٌ وآلام.وهي رُوح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا رُوح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازلَ لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوِّئُهم من مقاعد الصدق مقاماتٍ لم يكونوا لولاها داخليها.وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلُها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفرُ نصيب، وقد قضى الله يوم قدَّر مقاديرَ الخلائق بمشيئته وحكمتِه البالغة أن المرءَ مع من أحبَّ، فيا لها من نعمةٍ على المحبين سابغة.. . ” (مدارج السالكين )