كل الطرق تؤدي إلى واشنطن، ولكن..
الولايات المتحدة استطاعت أن تدفع بطرفي الخصومة في السودان إلى عدة هدن، صحيح أنها جميعها هشة، ولكنها تؤكد الدور الذي لعبته وتلعبه، واشنطن في إدارة الأزمات حول العالم.
صحيح أنها جميعها هشة، ولكنها تؤكد الدور الذي لعبته وتلعبه، واشنطن في إدارة الأزمات حول العالم.
فأيا كان نوع الأزمة أو مكانها أو أسبابها، إن تتبعتها ستصل بك إلى البيت الأبيض لا محالة، وهناك تدور النقاشات الأكثر أهمية حول استمرارها أو انتهائها، كما تُطرح الأسئلة المتعلقة بالأطراف الرابحة والخاسرة.
حتى الأمس القريب، كانت واشنطن تمتلك كل الأجوبة والتفسيرات لما يحدث حولنا، ولكن الأمر بدأ يتغير اليوم. صحيح أن جميع الطرق الدولية السياسية والعسكرية والاقتصادية لا زالت تؤدي إلى واشنطن، ولكن بعضها ضاق بفعل فاعل، وبعضها الآخر تفرع لأزقة مظلمة نتيجة أسباب جيوسياسية ومفاهيم جديدة.
الانحراف البسيط في زاوية دوران الأرض سياسيا، تكشف بعد حرب أوكرانيا، ولكنه لم يبدأ منها، فالدول التي باتت تزاحم الولايات المتحدة في رسم مستقبل البشر، لم يولد نفوذها بين ليلة وضحاها، والأصدقاء الذين يعيدون النظر اليوم في مركزية علاقاتهم مع واشنطن، ضاقوا ذرعا بـ "أنانية" الاستراتيجيات الأمريكية منذ سنوات، ولكن تعبيرهم عنها بقي مؤجلا حرصا على المصالح العليا والأهداف الحيوية.
حلفاء الولايات المتحدة اعتادوا السير خلفها بأعين مغماة، ولكن حرب أوكرانيا فجرت لديهم إشارات استفهام كثيرة إزاء ثوابت السياسة الدولية "الراسخة" في العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، ليس خشية من أن تتحول أمريكا إلى دولة ضعيفة فيضعفون معها، ولكن إدراكا منهم بأن لكل زمن معادلاته العالمية.
لم تسعَ أي من الإدارات المتعاقبة للبيت الأبيض منذ مطلع الألفية الجديدة، إلى استقرار العالم.. بدت مهتمة أكثر بخلق الأزمات وتفجير الصراعات، وفي أحسن الأحوال، تغذية المشكلات القائمة حتى تمتد لأجل غير مسمى.
والواقع، أن القطبية الأمريكية الواحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أسست لهذه الاستراتيجية، وجعلتها مغرية جدا للساسة وأصحاب المال ومؤسسات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة.
لم يعرف الشرق الأوسط الهدوء منذ أن هبت رياح "الديمقراطية" الأمريكية على العراق عام ٢٠٠٣، ربما لم تكن الولايات المتحدة سببا مباشرا لكل أزمة عرفتها المنطقة منذ ذلك الحين، ولكنها حتما كانت سببا في استمرار حالة عدم الاستقرار إلى الآن، فهي على الأقل، لم تمارس دورها كزعيمة للعالم في فرض حلول لمشكلات الدول، أو أنها اتبعت منطق التجريب غير مضمون النتائج، في التعامل مع تلك المشكلات.
لا يستند هذا الاستنتاج على "نظرية مؤامرة كونية"، ولا يعفي شعوب وحكومات المنطقة من مسؤوليتها تجاه المصائب التي تعيشها الدول، ولكنه يصف الدور الأمريكي بموضوعية العين التي يمكنها التفريق بين الإيجابي والسلبي في استراتيجيات الولايات المتحدة إزاء المنطقة العربية عموما خلال العقدين الماضيين.
حتى أصدقاء الولايات المتحدة في أوروبا وقعوا ضحية "استراتيجياتها الأنانية" في بعض الأحيان، والانسحاب الفوضوي من أفغانستان مثال واقعي يمكن الاستدلال به، وكذلك بيع الغاز الأمريكي لدول القارة العجوز بثلاثة أضعاف سعره عندما توقفت إمدادات روسيا من الوقود الأزرق بعد حرب أوكرانيا العام الماضي.
هناك أمثلة كثيرة أخرى، ومحصلتها دفعت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المجاهرة بضرورة توقف التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، كما سافرت بالمستشار الألماني أولاف شولتز إلى بكين ليعلن منها أن بلاده لن تنجر إلى الخصومة الأمريكية الصينية في تايوان، كما حدث على الجبهة الروسية الأوكرانية.
المشكلة الأبرز هي أن أمريكا تستغل نقاط ضعف أصدقائها وكأنهم خصوم لها، ولأنها القطب الوحيد في العالم منذ 3 عقود، لم تشعر بالحاجة إلى ضرورة التوفيق بين مصالحها ومصالح حلفائها، ولم تجد ضرورة لإنهاء العديد من الأزمات والمشكلات الدولية التي تدر عليها منافع سياسية واقتصادية مباشرة وغير مباشرة.
بعد حرب أوكرانيا اتضح أن العالم يمكن أن يكون أكثر توازنا إن توزع ثقله على ثلاثة أو أربعة أقطاب، ولكن لن يكون يسيرا على أي قوة أن تتحول إلى قطب ينافس أمريكا، وليس من السهل أيضا على الدول الصغيرة أن تشرك قوى كبرى في تحالفاتها الاستراتيجية التي لطالما كانت حكرا على الولايات المتحدة.
الطريقان يحتاجان لكثير من الحنكة والدبلوماسية وقليل من القرارات المتعقلة ذات الأهداف طويلة المدى، ليس خشية من نقمة أمريكا؛ وإنما حرصا على التحول الصحيح نحو التعددية في التحالفات الاستراتيجية، فتنويع الاستثمارات السياسية يقلل المخاطرة، ولكنه أيضا يقلص من العوائد ويحجم الربح في بعض الأحيان.
التعاون مع "الأقطاب الناشئة" حول العالم، ليس بالأمر الذي يمكن أن تقبله الولايات المتحدة ببساطة ورحابة صدر، ستبقى أمريكا تعمل ليل نهار على حماية مكانها كشرطي الكوكب دون منافس، ولكن الآلية التي استخدمتها طوال العقود الماضية لن تجدي نفعا، وهي بحاجة إلى تغييرها إن كانت تتطلع إلى سباق رابح.
التخلي عن "العنجهية" في التعامل مع الدول المؤثرة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، يمكن أن يكون بداية جيدة، ومن ثم يأتي الحرص على حلحلة المشكلات، ورأب التصدعات التي تشكل فرصا سانحة للقوى العالمية للتدخل في شؤون الدول، وخاصة الدول التي تعتبر ذات أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة.
تريد أمريكا أن تبقى قبلة دول العالم الباحثة عن مصالحة سياسية داخلية، أو تسوية خارجية اقتصادية، أو دعم عسكري ضد عدو عابر للحدود أو يكبر بين السكان، ولكن ذلك لا يتحقق بالمال وشركات السلاح فقط، ولا يمكن لأجهزة الاستخبارات الأمريكية ضمان ديمومته وكأن العالم مجرد حديقة خلفية للبيت الأبيض.
ولا يمكن للولايات المتحدة أن تحتل دول العالم وتجعل بينها وبينهم طرقا مرصوفة لتطبق مقولة "كل الطرق تؤدي إلى روما"، هي فقط تحتاج لتعبيد قنوات التواصل والتعامل مع حلفائها بأفضل العلاقات التي ترسخ مكانتها كقائدة وليس كشرطي.
ولعل من المفيد للأمريكيين اليوم تذكر وإعادة قراءة ما قاله الرئيس السابع عشر لبلادهم أندرو جونسون: "تبلغ مساحة واشنطن العاصمة ١٢ ميلا مربعا يحدها الواقع".