سرقة كليوباترا.. أزمة الغرب بين وهم المركزية وعقدة الذنب
حازم حسين
سرقة كليوباترا.. أزمة الغرب بين وهم المركزية وعقدة الذنب
عاش الغرب قرونًا على مُنجزات الآخرين. كان الاستعمار الخشن أداته لغصب ما يطمع فيه، وشرعنة ذلك بقوّة الأمر الواقع. الآن يبدو أنه يعيش مأزقًا ناشئًا عن تاريخه القديم؛ ليس من زاوية الشعور بالخجل والمسؤولية تجاه الضحايا على قدم المساواة؛ إنما من تعرُّضه لابتزاز يُمارسه بعضهم من داخل منظومته، وبدل أن يُسوّى الملفات ويُسدِّد الفواتير من رصيده، يستمرئ العيش مجدّدًا على حساب غيره. هكذا يتكرّر السلب بنزعة إمبريالية صريحة، وإن "تفنّن" فى اتخاذ هيئة مُغايرة.
أحدث الحلقات إعلان "نتفليكس" إطلاق مُسلسل قصير عن كليوباترا. آثرت أن أكتب قبل عرضه غدًا؛ حتى لا أُسحَب لحيّز الاشتباك مع المحتوى؛ بينما الفكرة ساقطة من أصلها. أولى القواعد أن يلتزم العمل ما اختاره من توصيف، وما يّدعى "التوثيق" لا يجب أن يُداخله الخيال والافتراض؛ إذ عليه أن يتقيّد بالعلم وحقائق التاريخ، وهو ما لم يتحقّق. انحرف "الوثائقى" إلى دراما مُلوّنة، وكان يُفترض حياده فاستدعى ضيوفًا مُنحازين، وبدلاً عن الموضوعية غيّب الأثريّين المصريين، وأخيرًا بينما استعان بالمغربية "ندى البلقاسمى" لم يستحضر أى وجه مصرى؛ رغم أنهم الأجدر بأدوارهم على الأقل!
يجب أوّلاً أن نُرسّم الحدود؛ لتكون أرضيّة النقاش واضحة. نحن المصريين أفارقة ونفتخر، لا نحتكر تاريخ القارة مُوقنين بأن لدى كل جغرافيا ما يُميّزها، كما لا نُنكر أن شطرها الأسود يقف على إرثٍ قديم: نوك نيجيريا، كوش السودانية، أكسوم الإثيوبية، بونت الصومالية، وغانا ومالى وشعوب البانتو وبحيرة تشاد وحوض نهر الكونغو.. تقف القارة على هضبة عالية من المُنجز الإنسانى والثقافى، لكنها مُتّسعة بقدر تعدُّد الثقافات والأعراق. بينما أساس المشكلة الدفع الحثيث لتسويد أفريقيا، وهى مزيج فيه من سمات التقارب؛ لا التطابق إطلاقًا.
فى مسألة "لون كليوباترا" يبدو الأمر محسومًا، المتوفر من عملات وتماثيل ورسوم تُشير لهيئة مقدونية واضحة. امرأة سيطرت على عاطفة أقوى رجلين فى عصرها يصعب أن تكون خارج مُدوّنة الجمال الهلنستية، والأهم أنها زارت روما رفقة "قيصر" ودخلتها كالملوك، ولم يكن ذلك مُمكنًا للسمراوات وفق التقاليد المُتعالية، فضلاً عن تعرّضها لحملة تشويه من "أوكتافيوس" لأنها أُمّ الوريث الشرعى "قيصرون"، وبينما اتّسع هجومه شاملاً كل ما يُمكن أن ينتقص منها، لم يتردّد أنها "زنجية" وهو ما لو تحقّق كان كافيًا لإصابة غرض الانتقاص وفق "عُنصرية رومانية" مُنحازة عرقيًّا. الخلاصة أنها مصرية الولادة والثقافة؛ وربما بنصف دم اتّصالاً بالقول إن لأمها أصولاً مصرية، لكن لا دليل إطلاقًا من تاريخ أو أركيولوجيا على أنها أفريقية سوداء.
ردُّ مُخرجة المسلسل "تينا جرافى" كان عاطفيًّا، لا يستند إلى دليل لازمٍ ما دامت تتصدّى وثائقيًّا. عبّرت عن إحساسها بعدم ملاءمة إليزابيث تايلور للدور، وافترضت أن ابتعادها 300 سنة عن أسلافها يُوجب تغيُّر اللون بالضرورة، مُتجاهلة تاريخ البطالمة مع النقاء المقدونى وزواج الإخوة، ورغم قولها إنه لا دليل على سواد بشرتها سألت: لماذا يجب أن تكون بيضاء؟ يبدو التناول طفوليًّا، ومسرحيًّا ينحو للاستعراض والصدام، إن لم يكن يتأسُّس، وهو الأرجح، على انحياز أيديولوجى وثقافى لا ينفصل عن رهانات منتجيه: جادا سميث بأصولها، أو "نتفليكس" بعبادتها لأُطر الصوابية السياسية وتشدُّدها فى إسناد الأقليات، حتى لو تجاوزت العقل والعلم.
ما تُمارسه الشبكة ليس جديدًا. لنا مع الغرب، وأمريكا تحديدًا، تاريخ من الاجتزاء والتشويه: فيلم "المصرى/ 1954" أغرق فى أحاديث الفساد ومؤامرات القصور، "أرض الفراعنة/ 1955" طعن فى نزاهة خوفو وتبنّى سردية سُخرة الأهرام، فضلاً عن السقوط بكامل الجسد فى وحل الرؤى العبرانية عن اضطهاد اليهود كما فى: الوصايا العشر/ 1923، الوصايا العشر 1956، أمير مصر/ 1998 و"خروج: آلهة وملوك/ 2014".
أزمة كليوباترا الراهنة بدأت قبل قرون. المنشأ ما مارسه الأمريكيون ضد السكان الأصليين، وما مارسوه من استرقاق مُنظّم بحق الأفارقة. التقديرات تُشير إلى نقل 12.5 مليون منذ القرن السادس عشر، ووصولهم عام 1860 لنحو 4 ملايين يُمثّلون قرابة خُمس السكان، بالمثل يأتى الاستعمار الأوروبى بما اقترفه من قتل وتشغيل قسرى ونهب للأراضى والثروات وانحراف بالسياسة الزراعية لصالح الربح، بلجيكا فعلت ذلك فى الكونغو ورواندا وبوروندى، وألمانيا غربًا وشرقًا، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال بامتداد القارة. إجمالاً يبدو أن الغربيين يشعرون بـ"عُقدة ذنب" كانت مُحفّز استجابتهم لخطابات "المركزية الأفريقية"، وكأنها مُحاولةَ تكفير عن خطايا قديمة؛ لكن المشكلة أنها توبة مُغلّفة بخطايا جديدة!
ليس الأمر خلافًا مصريًّا غربيًّا، ومن الخطأ اختزاله. سبق أن اعترض الغربيون أنفسهم على محاولات تدليس شبيهة: جودى سميث فى دور آن بولين، وديفيد جياسى "أخيل"، واقتراح "سوبر مان" أسود؛ إذ رغم خيالية الشخصية لم يستسغ الجمهور تجاوز تاريخها المرئى. الردّ بأن المصريين مُتعالون على الأفارقة ومُنسحقون أمام "الرجل الأبيض"، لذا قبلوا إليزابيث تايلور ويرفضون أديل جيمس، تدليس إضافى يُعمّق فداحة السقطة: أوّلاً لم نرقص احتفاء بـ"ليز"، وقد مُنع فيلمها وقت صدوره، ولا نعتبر الاختيار بريئًا أصلاً بالنظر لخلفيتها الداعمة لإسرائيل، ما يتصل بمشروع توقف قبل سنوات لتقديم "كليوباترا" بالصهيونية جال جادوت؛ كأنّه يُراد حبسنا بين المركزية الأفريقية والرؤية التوراتية، المهم أن تُنتزع حضارتنا وتُنسب لآخرين!
كليوباترا من أكثر شخصيات التاريخ حضورًا فى الدراما. نحو 18 عملاً حصّة الولايات المتحدة منها 9 أفلام، بدأت بأربعة صامتة بين 1899 و1917، وخمسة ناطقة آخرها 1963. فى كل القائمة لم تُقدَّم سمراء أو بملامح أفريقية. المُؤكّد أن الملكة التى لم يُكتشف قبرها، ولم تتغيّر الحقائق الأثرية عنها، لا يمكن إعادة تقديمها الآن مُلوّنة؛ إلا لأغراضٍ أبعد من التاريخ.. وليس مصادفة أن "الأفروسنتريزم" المُستحدثة قبل قرن تقريبًا، تضخّمت منذ الثمانينيات، وتوحّشت آخر عقدين.
مسألة الحضارة المصرية أبعد من المعمار والمأثور المُدوّن. يُمكن التماس الأعمق فى حضارتى البدارى ونقادة "5 و4 آلاف قبل الميلاد"، وفى "هيكل الترامسة وإنسان نزلة خاطر" قبل أكثر من 30 ألف سنة، ولا تبدو فيها جميعًا سمات عضوية أو شكلية تجمعنا بالقاعدة السوداء فى العُمق الأفريقى. يتحدّث البعض عن دراسات تُرجح نقاءنا الجينى، وبعيدًا من ذلك فإن هيئة الجدود وحصيلة الأنثروبولوجيا البيولوجية، لم يربطا بين جغرافيّتنا وجنوب الصحراء، لا فى الملامح الخشنة ونسب الأعضاء، ولا فى تشريح الجمجمة واتساع الأنف وشكل الفكّين. بالمنطق لا يُمكن أن ينزح شعبٌ كامل ولا أن يتبخّر جينيًّا كأن لم يكن، وإلى الآن لا يبدو لدينا ما هو أبعد من لون المصريين الطبيعى فى النوبة والصعيد.
استفاد الأوروبيون من استعمار أفريقيا، واستردّ الأخيرون حقوقهم باستعارة "فكرة المركزية". ارتكز الغرب إلى تراث الإغريق واعتبره مُعجزةً من فراغ، وعليه تأسَّست حضارته بنزوعٍ إلى الأفضلية العرقية؛ وأن لديه رسالةً تستوجب الإذاعة ولو بسحق الآخرين، ثمّ بعد انقضاء الإمبريالية أعاد إنتاج مركزيته تحت لافتاتٍ ثقافية: ناعمة كالعولمة ونهاية التاريخ، أو خشنة مثل "صدام الحضارات" بالشوفينية البيضاء وعداء الدول القومية، وبهذا أوغلت فنونهم فى سرديّة التفوق، لا معرفيًّا فقط؛ بل أخلاقيًّا أيضًا؛ على مذهب هوليود عن "الأمريكى المُخلّص"، فى المقابل لم يعترفوا بجرائمهم ضد الجنوب؛ حتى التجارب التى نزعت إلى التطهُّر والندم كانت فردية، لا بنت تحوّل معرفى وعقل مؤسَّسى. التغيُّر الوحيد داخل بيئتهم، ولصالح الأفارقة السود فقط.
يُؤسِّس أصحاب نزعة المركزية موقفهم على كتاب مارتن برنال "أثينا السوداء"، وبينما يطرح تبعية الإغريق لمُنجزات مصر وكنعان وفينيقيا، ما يجعل "السوداء" مُجرّد استعارة دالّة على المكان أكثر من اللون، يجتزئه المركزيّون على طريقة السنغالى شيخ أنتا ديوب. قال الرجل إن مصريين انتقلوا بحضارتهم جنوبًا وغربًا؛ لكنه عاد للزعم دون دليل بأثر أفريقى فى مصر. ويُغالى آخرون مُستدلّين بمفردات ثقافية، مثل: الطوطمية والتضحية والنظام الأُمومى وتأليه الملوك، بوصفها قواسم مشتركة؛ بينما أسبقيّتنا تاريخيًّا، وعجزهم عن تكرار المشهد فى بيئاتهم الفقيرة، يؤكّدان أن ما يبدو رابطًا ليس أكثر من تأثير المتن على الهامش، وغلبة المصريين على مُحيطهم بالأثر الثقافى والامتدادات السياسية.
يبدو الغرب بكامله اليوم أسير "الصوابية السياسية". الفكرة ماركسية النشأة ما تزال محل انتقاد كحالة "شمولية" تُقوّض أُسس الليبرالية الغربية؛ كما تُنتقد "المركزية الأفريقية" بوصفها تاريخًا زائفًا، لكنهما لم يتسلّطا على الأمريكيين فقط اتّصالاً بمظلومية الأفارقة والهنود الحمر، بل يحكمان المجال الغربى العام. "نتفليكس" تُخلص للصوابية وتُسرف فى خطاباتها، حتى باتت المثلية وتسويد التاريخ مُرتكزًا ضمن بنيتها الفكرية والإنتاجية. تحوّل الأمر من ترضية ضحايا المركزية الأوروبية إلى اختلاق مركزيات مُشوّهة، ومحاولة فرضها قهرًا. نحن إزاء واحدة من تجلّيات ثقافة التزييف التى حفرها الاستعمار فى اللحم، وربّاها الاستشراق وحصدتها هوليود وماكينات الإعلام والترفيه، وإزاء سرقة صريحة لواحدة من حلقات التاريخ، والأهم أنها سقطة للعالم الأول، رغم ما يدّعيه من سبقٍ معرفى وأخلاقى؛ إذ ينزل عن مركزيةٍ مُتسلّطة سطّرها بالدم المُراق دون حقٍّ، لصالح مركزية وهمية تعتمد التلفيق دون حقٍّ أيضًا، ويتوب عن "عُقدة الذنب" تجاه بعض ضحاياه، بارتكاب جرائم أفدح ضد ضحايا أكثر.. إنه اختبار جديد يدخلونه بإرادتهم، ويسقطون فيه عامدين!