اخر معاقل المسلمين في الاندلس هي
اخر معاقل المسلمين في الاندلس هي، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1248م خرج أهل إشبيلية من مدينتهم بعد حصار استمر نحو 17 شهرا، وقُدِّر عددهم بنحو 400 ألف مسلم. وأصبح ذلك اليوم يوم سقوط كبرى الحواضر بالأندلس في يد ملك قشتالة، نتيجة خيانة أمير غرناطة ابن الأحمر المُلقَّب بالغالب بالله، الذي أسهم مع جنده في استيلاء النصارى على إشبيلية، ووفق معاهدة وقعها مع ملكهم عام 643هـ/ 1246م، ووُصفت بمعاهدة "الخزي والعار".
ودخل ملك قشتالة فرناندو المدينة في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، وحوّل مسجدها الجامع إلى كنيسة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إشبيلية عاصمة مملكة قشتالة، ولم يبق فيها اليوم من آثار العرب والمسلمين إلا الخيرالدا، وهي منارة الجامع الأعظم التي حوِّلَت إلى برج حراسة.
الاسم والموقع
كان أصل اسم إشبيلية "سبال"؛ أي الأرض السهلية، وقيل إن يوليوس قيصر لما بناها سماها "رومية يوليوس"، وعُرفت عند اليونانيين "بإشبانية"؛ إما نسبة إلى اسم ملكهم إشبان بن طيطش، أو إلى شعب بهذا الاسم، أو اشتقاقا من اللفظ الفينيقي إشفيلا أو سبانا. وسميت أيضا باسم "هسبريا"، وتعني الكوكب الأحمر أو نجمة السماء.
وسميت "إشبالي" من أصل إيبيري، ومعناه: المدينة المنبسطة، ثم تحوّل اسمها إلى اسم لاتيني "هيسبليس" بعد أن غزاها الرومان. وعَرَّبَه المسلمون إلى (إشبيلية)، ومنه اشتقّ الإسبان الاسم الحالي (Sevilla).
وتقع مدينة إشبيلية في جنوب غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، على ضفاف نهر الوادي الكبير (جنوبي إسبانيا)، وينبع النهر -وهو من أكبر الأنهار في الأندلس وأهمها- من جبال شقورة، ويمر بمدينة قرطبة إلى إشبيلية، ويعدّ حلقة وصل بين المدينة وسائر المدن الأندلسية. وتبعد إشبيلية عن المحيط الأطلسي 86 كيلومترا.
وتكثر بهذا الوادي الأسواق والأعمال التجارية المختلفة، التي تدر أرباحا طائلة على إشبيلية وسكانها؛ ولذلك عرف أهلها بكثرة أموالهم وتجارتهم.
التاريخ
يعدّ الإيبيريون أول من أسس مدينة إشبيلية، وكانت قبل ذلك مستعمرة عسكرية يونانية وفينيقية، ثم قرطاجية، قبل أن يغزوها الرومان، ثم كانت عاصمة لمملكة الواندال، ومقرا لملوك القوط الغربيين بين عامي 441 و567 م.
وفي بداية القرن السابع الهجري، كانت من أهم مراكز المسيحية الأولى في إسبانيا، قبل دخول العرب المسلمين إليها عام 713م. وشكلت بفعل أهمية موقعها إحدى القواعد الكبرى للمسلمين في الأندلس.
وسكنها العرب والبربر إلى جانب سكانها الأصليين، ومنهم من اعتنق الإسلام وأطلق عليهم "المسالمة" أو "المتحولون".
أما الذين نشؤوا في ظل الإسلام فقد سُمّوا "المولدون"، وهم أغلب سكان إشبيلية في زمن الإمارة الأموية، واحتفظ كثير منهم بأسمائهم الإسبانية نتيجة الاختلاط والزواج، أما الذين بقوا على الدين المسيحي فسُمّوا "العجم" أو "المستعربون".
كانت إشبيلية حاضرة الأندلس في عهد موسى بن نصير، وأول وُلاتِها هو عيسى بن عبد الله الطويل، ثم أصبحت مقرا لحكم ملوك بني عباد، وخلفاء المرابطين من بعدهم، ثم الموحدين الذين كانوا آخر الدّول والممالك القوّية بها، وانتزعها منهم فرناندو الثالث ملك قشتالة، وأقام بها كاتدرائية، ويعد أول ملك مسيحي يدفن بها.
طوائف ودويلات
بعد سقوط الدولة الأموية قُسِّمت الأندلس إلى إمارات حكمها أمراء النّواحي وسُمّوا "ملوك الطوائف"، واستمر عصرهم نحو 70 عاما من 1023م، وحتى1091م.
وتجزّأت البلاد تحت حكمهم إلى مجموعة من الدّويلات، بلغ عددها ما يزيد على 23 دويلة، على الرغم من أن ما يقارب من 25% من مساحة الأندلس كانت بأيدي النصارى. وتسابق ملوك الطوائف لتقديم الجزية إلى ملوك ليون وقشتالة، طمعا في هزيمة خصومهم من ملوك الطوائف الآخرين.
وبعد هزيمة الموحدين في معركة العقاب (جمع عَقَبة) عام 1212م، سقطت الأقاليم الأندلسية تباعا في يد مسيحيي قشتالة، ولم تبق آنذاك إلا ولايتان كبيرتان، هما:
- ولاية غرناطة وتقع في الجنوب الشرقي، وتمثل نحو 15% من مساحة الأندلس. وحكمتها أسرة بني نصر (بنو الأحمر)، وأميرها هو محمد بن يوسف بن نصر، الملقّب بابن الأحمر لاحمرار لون شعره. وهم آخر سلالة حكمت في الأندلس بين عام 1432م وعام 1492م.
- ولاية إشبيلية، وتقع في الجنوب الغربيّ، وتمثّل نحو 10% من أرض الأندلس. وكانت نقطة التقاء الطرق العامة في جنوبي البلاد، وحكمها بنو عباد 70 عاما، وبدأت بحكم "أبو القاسم محمد" (19 عاما)، ثم ابنه عمرو بن عباد الملقب بالمعتضد (28 عاما)، وتبعه حفيده محمد بن عباد الملقب بالمعتمد (23 عاما).
قاعدة بني عباد والموحدين
تعدّ دولة بني عباد ملوك إشبيلية أشهر دول الطوائف، وأصلهم من العرب الذي استقرّوا أول الأمر في شلب (غربي الأندلس)، وترجع شهرتهم إلى جدهم إسماعيل بن عباد الذي عيّنه المنصور بن أبي عامر قاضيا على إشبيلية، وبعد إلغاء الخلافة الأموية وجد إسماعيل الفرصة سانحة لحكم إشبيلية، وكان أهلها قد قدموه للرئاسة حتى تنجلي الفتنة.
خلفه ابنه أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد بعد وفاته، وكان قد عينه القاسم بن حمود آنذاك واليا على إشبيلية، وأعلن ولاءه لهشام المؤيد، ثم استقل بحكم المدينة عام 1029م. ويعدّ هذا القاضي الثري (كان يمتلك ثلث ثروة المدينة) المؤسس لملك بني عباد بقوته وحزمه وذكائه.
ثم خلفه ابنه أبو عمر عباد بن محمد بن إسماعيل، الملقب بالمعتضد، وكان في 26 من عمره، وبايع أبو القاسم بن حمود عندما ادعى الخلافة، ولكن عندما طرد أبو القاسم من قرطبة وأراد اللجوء إلى إشبيلية؛ أقفل المعتضد أبوابها في وجهه، وتنكّر له، واجتمع مع اثنين من كبار البلد، هما: أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله بن باريم، ودبّروا أمر إشبيلية، ثمّ انفرد المعتضد بحكمها، ودخل في حروب طويلة مع جيرانه لتوسيع رقعة المدينة، واقترف في سبيل ذلك جنايات أخلاقية كبيرة، ووصفه ابن بسام بأنه "قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة".
وقام بتصرفات ذميمة، مثل إنشائه حديقة الرؤوس، التي أسسها من جماجم أعدائه بعد قَتْلِهم، وتفاخر بذلك، كما تمكّن من توسيع رقعة بلاده على حساب المسلمين، وتهافت على أداء الجزية لفرناندو الأول ثم لألفونسو السادس.
وتوفي عام 1068م، ويقال أن سبب وفاته كان موت ابنته بين يديه، فحزن على فقدها حتى أدركه الموت بعد وفاتها بـ4 أيام.
ولم يكن المعتمد تجاوز 29 من عمره عندما خلف أباه على عرش إشبيلية، وانشغل عن أداء الجزية في ذلك الوقت فطلب ألفونسو السادس بعض الحصون زيادة على مبلغ الجزية، كما طلب دخول زوجته إلى جامع قرطبة لتلد فيه، وأن تنزل بمدينة الزهراء غربي قرطبة.
وأرسل مطالبه مع وزيره اليهودي لتبليغ المعتمد بها، إلا أن الوزير أغلظ القول فضربه المعتمد بمحبرة كانت بين يديه على رأسه وأمر بصلبه منكوسا. ولما بلغ ألفونسو ما صنع ابن عباد، أقسم على غزو إشبيلية.
ولما استولى المعتمد على قرطبة، هددته أطماع ألفونسو، فاضطر إلى طلب نجدة يوسف بن تاشفين المرابطي، الذي انتقل لنجدته مرتين وهزم القوات النصرانية في معركة الزلاقة في 22 أكتوبر/تشرين الأول 1086م. وفي عبوره الثالث ضم إشبيلية إلى حكم دولة المرابطين عام 1091م. ومات المعتمد أسيرا لدى يوسف بن تاشفين في بلدة أغمات قرب مدينة مراكش (جنوبي المغرب) عام 1095م.
وفي عام 1147م أصبحت إشبيلية قاعدة للموحدين، ثم سقطت دولتهم بعد وفاة محمد الناصر عام 1269م.
معاهدة "العار والخزي"
تتابع سقوط مدن الأندلس وحواضرها الكبرى في أيدي الأعداء بمعاونة بعض ملوك الطوائف؛ لا سيما ابن الأحمر (أمير غرناطة) الذي أصبح خلال المرحلة الأولى من قيام دولته من أتباع فرناندو الثالث ومعاونه في تسليم بلدان الأندلس.
وكان ملزما بتقديم المساعدة العسكرية عندما يطلب منه ذلك، وحضور مجالسه (الكورتس)، ودفع جزية سنوية قدرها 150 قطعة من الذهب تُؤدى خلال 20 عاما (وهي مدة المعاهدة).
واضطر ابن الأحمر إلى إرسال معونة عسكرية اشتركت في استيلاء القشتاليين على إشبيلية؛ بناء على المعاهدة التي وقعها مع ملك قشتالة عام 1246م وعرفت بمعاهدة "الخزي والعار".
وبعد وفاة فرناندو الأول، جدد ابن الأحمر العهد مع خليفته ألفونسو العاشر، الملقب بـ"ألفونسو العالم". وقال لسان الدين بن الخطيب في ذلك" هكذا اشترى ابن الأحمر سلامته وسلامة مملكته بهذا الثمن الفادح لكي يتفرغ إلى تنظيم مملكته وتوطيد سلطانه الداخلي، وهو ما أسهم في توجه الأنظار نحو إشبيلية آخر حواضر الأندلس المتبقية خارج حدود مملكة ابن الأحمر".
وقال عنه المقّري "وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يدَه بالطاغية (فرناندو الثالث) استظهارًا على أمره فعضّدَه، وأعطاه ابن هود ثلاثين حصنًا في كفّ غَرْبِه ( يأمن شرّه) بسبب ابن الأحمر، وليعينه على ملك قُرطبة، فتسلمها ثم تغلّب على قرطبة (…) ثم نازَل (فرناندو الثالث) إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه، ثم دخلها صُلحًا وملَك أعمالها…".
حصار إشبيلية
في عام 1245م آل الحكم في إشبيلية إلى أبو عمرو بن الجد، وهو حفيد الفقيه الشهير ابن رشد الجد. وكان قد أقام معاهدة مع فرناندو الثالث بالبنود نفسها التي كانت مع ابن الأحمر. فثار أهل إشبيلية ضده وقتلوه، وأعلنوا بطلان المعاهدة، فغضب فرناندو لما حدث، واستغل ذلك ذريعة لدخول إشبيلية، التي كانت مدينة عسكرية تحيط بها أسوار منيعة من كافة الجهات.
وفي أغسطس/آب 1247م عبر فرناندو بجيوشه نهر الوادي وعلى مقربة من مدينة قرمونة، وافاه ابن الأحمر أمير غرناطة بمعونة عسكرية قوامها 500 فارس، وسارا معا جنوبا نحو قلعة جابر حصن إشبيلية من الجنوب الشرقي.
وتم الاستيلاء على قرمونة حصن إشبيلية الأمامي، ثم لورة، وقنطلانة، وغليانة، وجرينة، وبسقوط بلدة القلعة أصبحت سائر الحصون الأمامية لإشبيلية من جهة الشمال والشرق والغرب في أيدي القشتاليين. وكان ابن الأحمر هو من أقنع أصحابها بتسليمها لفرناندو مقابل تعهده بحقن دمائهم وصون أموالهم وأرزاقهم.
وحشد فرناندو حول المدينة قوات عظيمة، واحتل أسطوله (13 سفينة كبيرة وعدد من السفن الصغيرة) مياه مصب الوادي الكبير؛ لمنع ورود الإمدادات والمؤن إلى إشبيلية عن طريق البحر، وكانت قلعة طريانة الخط الدفاعي الأول لمدينة اشبيلية، إذ كانت المنفذ الوحيد لتلقي المؤن من العدوة المغربية.
وعزل القشتاليون المدينة من الشمال والشرق، وشهد أسقف ليون (بيير دي تارنتيز) أن المدافع استُخدمت أثناء الحصار، وكان أول استخدام للبارود في الغرب، واشتدت وطأة الحصار بعد قَطْعِ النصارى الاتصال بين طريانة وإشبيلية، وتم تحطيم القنطرة التي كانت الملاذ الوحيد والأخير لتموين المدينة.
وامتد الحصار نحو 17 شهرا، وفتك الجوع والمرض بالأهالي. وذكر المراكشي في ترجمة أبي الحسن الدباج -وكان من وجهاء وعلماء إشبيلية- أن دعاءه في حصار إشبيلية كان "ألا يخرجه الله منها ولا يمتحنه بما امتحن به داخلها". فتوفي قبل سقوطها بـ9 أيام ولم يحضر الصلاة عليه إلا 3 أشخاص، نتيجة ما حل بالناس من وباء وجوع. ومن شدة الاضطراب وسوء الحال دُفن الدباج في داره بعد أن حفر قبره بالسكاكين.
ويصف ابن عذارى في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" حالة المدينة، فيقول "وعدموا المرافق كلها، قليلها وجليلها، إلا ما كان في بعض ديار الأغنياء والناس يمشون سكارى وما هم بسكارى، ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود".
السقوط الأخير
لم يعد أمام أهل إشبيلية -حاضرة الموحدين في الأندلس- سوى القبول بتسليم المدينة والخروج منها. وعرض زعماؤهم بداية تسليم ثلث المدينة ثم نصفها، ثم انتهت المفاوضات بتسليم المدينة كاملة، وسائر الأراضي التابعة لها في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1248م.
وسُلِّم قصر الوالي ومقر الحكم في إشبيلية إلى ملك قشتالة، فرفع شعاره الملكي فوق برج القصر العالي إيذانا بسقوط المدينة في أيدي النصارى.
وأُخليت المدينة خلال شهر، وقدرت الروايات عدد من خرجوا بنحو 400 ألف مسلم، هاجر 100 ألف منهم بحرا إلى سبتة في المغرب، و300 ألف خرجوا برا وتفرقوا في مختلف أنحاء الأندلس.
ودخل فرناندو مدينة إشبيلية في موكب ضخم، بعد أن حكمها المسلمون أكثر من 5 قرون.
وبمجرد دخوله إليها أصدر أمرا بتحويل مسجدها الجامع إلى كنيسة، وإزالة معالم الإسلام منها، ومنح دور المسلمين وأراضيهم إلى جنوده.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إشبيلية عاصمة مملكة قشتالة النصرانية، فجاء سقوطها بعد سقوط قرطبة ومدن الشرق، تصفية لسلطان المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، ولم يبق من آثارهم إلا صومعة الخيرالدا، أو منارة الجامع الأعظم الذي أسسه أبو يعقوب المنصور الموحدي.
-
اخر معاقل المسلمين في الاندلس هي
-
إشبيلية
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية