الأمن القومي فوق المصالح الاقتصادية
في كتابه المرجع "نظرية الأمن القومي" يقول الدكتور حامد عبد الله ربيع: "مفهوم الأمن القومي هو عملية تقنين لمجموعة من المبادئ تتضمن قواعد للسلوك القومي تمثل الحد الأدنى للحماية الذاتية".
بهذا المعنى يتكون مفهوم الأمن القومي من مبادئ مقننة تنبع من طبيعة الأوضاع الاستراتيجية، والخصائص المختلفة المتعلقة بالتعامل مع الامتداد الإقليمي وخصائصه من جانب، والعنصر البشري وسلوكياته من جانب ثانٍ، والدول المحيطة ووزنها من جانب ثالث. جميع هذه المتغيرات تتداخل في تشكيل الوعاء المادي للأمن القومي. هذه المبادئ المقننة تصير المصدر المباشر لبناء نظام متماسك ومتصاعد للأمن.
وهنا من الضروري إثارة السؤال: كيف نحدد الأمن القومي؟ وما العلاقة بين محددات الأمن القومي والمصالح الاقتصادية؟ وهل يكون الأمن القومي قائماً على المبادئ الاستراتيجية فقط؟ وماذا لو تعارضت تلك المبادئ مع المصالح الاقتصادية المباشرة والحاضرة؟
الأمن القومي في جوهره مجموعة من المبادئ تحددها عوامل بعضها ثابت وبعضها متغير، ولكنها مبادئ؛ أي لا يستطيع صانع القرار أن يخرج عن سياقها؛ حتى وإن كانت مصالحه، أو مصالح النخبة التي يعبر عنها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو حتى مصالح الشعب في هذه اللحظة التاريخية تستلزم غير ذلك، فالدول تخوض حروباً للدفاع عن أمنها القومي؛ على الرغم من أنه لا مصلحة لأحد في الدخول في الحرب خصوصاً إذا كانت دفاعية.
وفكرة المبادئ في مفهوم الأمن القومي لا تعني أنها عكس المصالح، ولكنها تتضمن منظومة خاصة من المصالح طويلة الأمد، أو المصالح الوجودية، التي يتعلق بها مصير الدولة والمجتمع، وليست مصالح بالمعنى السياسي، أو الاقتصادي اللحظي، لذلك عندما نقول إن الأمن القومي مبادئ؛ فإن ذلك يتضمن المصالح العليا الدائمة المستقرة، ولكنه لا يتضمن المصالح السياسية، أو الاقتصادية الوقتية، ولكنه لا يتعارض بالضرورة معها، أو ينفيها، بل يحافظ عليها على المدى البعيد؛ حتى وإن ضحى ببعضها في المدى القريب أو المتوسط.
وقد حدّد حامد ربيع رحمة الله عليه غاية الأمن القومي في تحقيق "الحد الأدنى للحماية الذاتية"، وهذا الحد الأدنى من الحماية الذاتية تحدده ثلاثة عناصر هي:
• الموقع الاستراتيجي والامتداد الإقليمي، وطبيعة العلاقات مع قوى الإقليم ومكوناته.
• العنصر البشري وسلوكياته سواء من الدولة ذاتها، أو من قيادات دول الإقليم وامتداداته الجغرافية.
• الدول المحيطة وأوزانها النسبية.
هذه المكونات الثلاث تتفاعل مجتمعة لتحديد الإدراك الذي يشكل مفهوم الأمن القومي، لذلك فجوهر هذا المفهوم يقوم على المبادئ الثابتة التي تشكلها في الأغلب عناصر خارج إطار سيطرة وتحكم القيادة السياسية؛ التي يتشكل عندها الإدراك الذي يحدد معايير الأمن القومي.
لذلك فلن يكون غريباً أن تجد تطابقاً بين الفراعنة واليونانيين والبطالمة والرومان والمسلمين في التعامل مع الأمن القومي المصري، فمنذ الفراعنة وحتى اليوم؛ هناك إدراك مشترك عند القيادة السياسية الواعية بعناصر ومحددات مفهوم الأمن القومي المصري، فقد حرص الفراعنة على أن تكون قوة الفينيقيين (لبنان تاريخياً) البحرية مندرجة في إطار أمنهم القومي، وكانوا يعتمدون عليها في كل من البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وكانوا يحرصون على ألا تظهر قوة معادية لهم من بلاد بُنط (الصومال) إلى أطراف مملكة الحيثيين (الأكراد)، ولذلك عندما ضعفت قوة الفراعنة سقطت مصر في يد الهكسوس وهم من شمال العراق وإيران.
واستمر موقع مصر يلزم من يحكمها بأن أمنها القومي يمتد من الصومال والبحيرات العظمى جنوباً إلى جبال طوروس شمالاً، ومن جزيرة العرب شرقاً إلى حدود تونس غرباً طوال كل تلك العصور، ولنتذكر موقف المماليك من دخول البرتغاليين إلى بحر العرب، وتعاون "قنصوة الغوري" مع "الزامورين" حكام الهند المسلمين، ومواجهة البرتغاليين على ساحل الهند الغربي شمال مومباي 1509م في موقع "ديوي" البحرية، ولنراجع إدراك أسرة محمد علي للأمن القومي المصري، وإدراك جمال عبدالناصر، سنجد أن موقع مصر فرض على الجميع مفهوماً محدداً للأمن القومي.
لا يستطيع من يحكم مصر أن يترك أمن باب المندب للظروف، وللاحتمالات، ولا يستطيع أن يترك أمن جزيرة العرب كذلك ولا أمن الشام، ومن يفعل ذلك يعرض مصر للخطر، بغض النظر عن علاقات الود والصداقة والأخوة مع من يقترب من هذه المناطق.
في كل الأحوال لا بد ألا يكون هناك مجال للمغامرة، والحسابات السياسية أو الاقتصادية، لأنه إذا ضاع الوطن والوجود والذات لن يكون هناك اقتصاد أو سياسة، إلا إذا كنا نقصد سياسة الخيل واقتصاد العلف والعليقة للمستعبدين الأذلاء.