هل مات الرسول مسموما
هل مات الرسول مسموما
إن ظاهر العديد من الروايات، التي وصلتنا من طرق السنة والشيعة، بل صريحها، هو أنه (صلى الله عليه وآله) قد مات مسموماً.. وقد ذكرت طائفة منها: أنه (صلى الله عليه وآله)، قد سُمَّ على يد يهودية كانت ـ فيما يبدو ـ قد تظاهرت بالإسلام.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم توفي في المدينة المنورة في يوم الاثنين 12 ربيع الأول في العام 11 هجريًا (يوم الثامن عشر من يونيو سنة 632 ميلاديًا) وهذا الحدث يعرف بوفاته أو وفاته النبوية.
قبل وفاته، كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد ألقى خطبته الأخيرة في المسجد النبوي وأدى صلاة الظهر، ثم عاد إلى منزله وشعر بتدهور حالته الصحية. توفي في منزله بين أحضان عائلته وأصحابه الأوفياء.
وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت لحظة مؤثرة في تاريخ الإسلام، وتعتبر هذه اللحظة بداية مرحلة جديدة في تطور الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي، حيث تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قيادة المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأت فترة الخلافة الراشدة.
ثبت في "الصحيحين" عن أنس: "أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة؛ فأكل منها؛ فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، قال: "ما كان الله ليُسَلِّطَكِ على ذاك"، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: "لا"، قال: فما زلت أعرفها في لَهَوَات رسول الله، صلى الله عليه وسلم".
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة، ما أزال أجد أَلَمَ الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهُرِي من ذلك السُّم".
وروى ابْنُ السُّنِّيِّ وأبو نُعَيْمِ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زالت أَكْلَةُ خَيْبَرِ تعاودني في كل عام، حتى كان هذا أوان قطع أَبْهُرِي" (وصححه الألباني في صحيح الجامع). واللَّهَوَاتُ: جمع لَهَاة، وهي اللحمة المُعَلَّقَةُ في أصل الحَنَك، ومراد أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يَعْتَرِيَهُ المرض من تلك الأكلَةِ أحياناً، وهو موافق لقوله في حديث عائشة: "ما أزال أجد أَلَمَ الطعام".
ووقع في "مغازي" موسى بن عقبة عن الزهري مُرسَلاً: "ما زلت أجد من الأَكْلَةِ التي أكلت بخيبر عِداداً حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري". "ويُحْتَمَلُ أن يكون أنس أراد أنه يُعْرَف ذلك في اللَّهَوَاتِ بتغَيُّر لونِها أو بنُتُوءٍ فيها أو تَحْفِيْر". كذا في الفتح مختصراً، وقال النووي: "كأنه بقي للسُّمِّ علامة وأثر من سواد أو غيره... وفيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السُّم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذِّرَاعَ تُخبِرُني أنها مسمومة"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. يقول الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية": "ومن المعجزة أنه لم يؤثر فيه في وقته، لأنهم قالوا: "إن كان نبياً لم يضره، وإن كان مَلِكاً استرحنا منه"، فلما لم يُؤثِّر فيه تيقَّنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنوات لإكرامه بالشهادة.
ومما سبق يُعْلَمُ أن الحُمَّى التي أصابته صلى الله عليه وسلم قبل موته كانت من أثر السُّم الذي تناوله بخيبر، فلم يضره ذلك السُّم طول حياته، ولم يؤثر عليه في ذلك الوقت -غير ما أثر بلَهَوَاتِهِ وغير ما كان يعاوده منه في أوقات- فقاد الجيوش بعد ذلك ودخل المعارك الكبرى وانتصر فيها، وفاوض الأعداء، واستقبل الوفود، ومارس حياته العادية، حتى وافاه الأجل المحتوم بصورة طبيعية، فأحدث الله تعالى ضرر ذلك السُّم في النبي صلى الله عليه وسلم فتوفي بسببه، كما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه: "مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الأَكْلَةِ الَّتِى أَكَلْت بِخَيْبَر فهذا أَوَان قَطَعَتْ أَبْهَرِى". فجمع الله لنبيِّهِ بين النبوة والشهادة؛ مبالغةً في الترفيع والكرامة، وعلو المنزلة عند الله تعالى، ولينال مَقَام الشهداء مع مَقَام النبوة؛ ولذلك كان ابن مسعود والزهريُّ وغيرهما يرون أنه صلى الله عليه وسلم مات شهيداً من ذلك السُّم، والله أعلم.