علم الفلك عند المسلمين
علم الفلك عند المسلمين
بعيداً عن علم التنجيم والرؤى المستقبلية الذي ارتبط به علم الفلك عند الحضارات القديمة، كان لهذا العلم مكانة مركزية في المجتمع منذ عصور الحضارة الإسلامية الأولى. حيث اعتمدت الممارسة الإسلامية في بداياتها على علم الفلك لثلاثة أغراض: حساب أوقات الصلاة لمواقع وتواريخ مختلفة بالاستناد إلى الحركة الظاهرية للشمس، وتحديد اتجاه مكة (القبلة) للصلاة، وتحديد مواعيد الأعياد المقدسة وبخاصة شهر رمضان والحج، وذلك من خلال رصد الهلال.
خلال العصر العباسي، وخاصة في حقبة هارون الرشيد، اكتسب هذا العلم مكانة خاصة. حيث شهدت هذه الفترة نشاطاً غير مسبوق لبناء مراصد كبيرة ذات هياكل دائمة تضم أدوات ضخمة مصنوعة بعناية. كما ارتبط عدد كبير من علماء الفلك بهذه المراصد التي كانت ترعاها الدولة في ذلك الوقت، وتوفر لهم جميع السبل لدراسة وتقديم نظرياتهم واكتشافاتهم حول هذا العلم.
المراصد الفلكية في العصور الإسلامية
في أوائل القرن التاسع، أي بعد عقود قليلة من تأسيس بغداد كعاصمة للإمبراطورية الإسلامية الجديدة، أمر المأمون (786- 833م) ببناء مرصدين فلكيين، واحد بالقرب من بغداد والآخر على قمة جبل قاسيون في دمشق. كان هدفهما الرئيسي التحقق من البيانات الشمسية والقمرية في الجداول اليونانية والهندية القديمة، وإنتاج تقاويم مدنية ودينية. وقد تضمنت المرافق لقياس الزوايا في السماء ربعاً مصنوعاً من الرخام بنصف قطر يبلغ خمسة أمتار، ومزولة شمسية مع عقرب مركزي (العمود الذي يلقي الظل) يزيد ارتفاعه على خمسة أمتار.
وبحلول القرن الثالث عشر الميلادي، كان الحكام ينشئون مراصد عظيمة كانت الأكبر في العالم في ذلك الوقت، مثل "مرصد مراغة" (في فارس) الذي استخدم علماء الفلك والطلاب من جميع أرجاء العالم أدواته المتطورة، والتي تضمنت نموذجاً للكرة الأرضية ولحركة الأجرام السماوية يبلغ عرضها عدة أمتار، بالإضافة إلى مكتبته التي تضم نحو 400 ألف كتاب اشتمل على النظريات التي تم تطويرها هناك مثل "مزدوجة الطوسي" وهي نموذج وضعه عالم الفلك الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن نصير الدين) عام 1247م، في كتابه "التذكرة"، واستخدمها لاحقًا "نيكولاس كوبرنيكوس" في هندسة مدارات الكواكب.
أراد الطوسي من خلال نظريته تمثيل حركة الأجرام السماوية، فتكوّن نموذجه من دائرتين متداخلتين، قطر الصغرى منهما نصف قطر الكبرى، وتدور الصغرى باتجاه معاكس لدوران الكبرى، وتمثّل سرعة دوران الكبرى نصف سرعة الصغرى
وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، تم بناء مراصد فلكية أكثر، حيث شهدت تلك الفترة اهتماماً أكبر في مجال الفلك وعلومه. ويعتبر مرصد سمرقند (المعروف حالياً باسم مرصد أولوغ بيك) من أهمها. وقد اكتمل بناءه عام 1429م وكان عبارة عن مبنى بارتفاع 30 متراً يضم أحدث الأدوات التي تخص مجال علم الفلك في ذلك العصر من أدوات لقياس الزاوية الأفقية للنجم من الشمال ومواقع النجوم الأخرى.
كما تم بناء مرصد إسطنبول على يد "تقي الدين" بأمر من السلطان العثماني في عام 1577م، وهو على الرغم من صغر حجمه إلا أنه كان يضم أيضاً أدوات حديثة في عصره. حيث تم إنتاج جداول متطورة توضح مواقع النجوم والكواكب والشمس والقمر، ورصد "النجم المذنب" الذي كان من أوائل الدراسات العلمية التي جرى تناولها في المرصد، ولكن ما لبث أن أخبر تقي الدين السلطان بأن هذه الحادثة تبشر بالنصر على الجيش الصفوي في ذلك الوقت. إلا أن مدينة إسطنبول شهدت تفشي الأمراض والعدوى في العام التالي، ما دفع بشيخ الإسلام أحمد شمس الدين أفندي لإرسال رسالة إلى السلطان مفادها بأنه "لا يجوز التطفل في أسرار السماء، لأن هذا الأمر مستهجن وسيثير غضب الله". وتضمنت الرسالة فتوى بضرورة هدم المرصد، وهو ما تحقق فيما بعد بتاريخ الـ21 من كانون الثاني عام 1579، حيث تم تدميره بضربات المدفعية.
أسماء علماء الفلك المسلمين على الأجرام
تزامنت فترة ازدهار البحوث العلمية الفلكية في عصر الحضارة الإسلامية مع العصور المظلمة في أوروبا، وقد جاء علماء المسلمين في المقدمة وكان للعديد منهم نصيباً بأن تكون أسماؤهم خالدة ومحفورة في السماء مع الأجرام السماوية التي سميت على اسمهم، كالبيروني (أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني) الذي يعتبر من أشهر علماء الفلك المسلمين، فهو أول من أثبت حركة أوج الشمس، وأعد جداول فلكية جديدة بناءً على أرصاده الخاصة، وعمل على تبسيط رسم الخرائط الفلكية، وصنع جهازًا يمثل حركات الشمس والقمر، وابتكر "الأسطرلاب الأسطواني"، وقد سمي الكويكب (9936) على أسم البيروني. كما كان لـ البتّاني (أبو عبد اللّٰه محمد بن جابر بن سنان البَتّاني 858- 929 م) نصيب في تخليد أسمه في الفضاء أيضاً، حيث سميت فوهة بركانية على سطح القمر باسمه "فوهة البتاني القمرية"
يُسجّل للبتّاني حساب مدة السنة الشمسية بدقة شديدة وبفارق دقيقتين و26 ثانية فقط فيما يتعلق بالقياس الحالي، ووصف ميل الكسوف وعلاقته بالفصول، كما اكتشف وجود كسوف شمسي حلقي، كما حقق مواقع عدد كبير من النجوم، وصحح بعض نظريات حركات القمر وكواكب المجموعة الشمسية، ويعود له الفضل في أجرى أرصادًا دقيقة للكسوف والخسوف. حيث اعتمد عليها فلكيو الغرب في حساب تسارع القمر أثناء حركته خلال قرن من الزمان.
وإذا ما ذكرنا علم الفلك في الحضارة الإسلامية لا بد من ذكر العالم عبد الرحمن الصوفي الرازي 903- 986م، والذي قدم في علم الفلك إسهامات مهمة، منها رصد النجوم، وعدَّها، وتحديد أبعادها عرضًا وطولًا في السماء، إلى جانب ملاحظته نجوماً لم يسبقه إليها أحد من قبل. كذلك، رسم خريطة للسماء حسب فيها مواضع النجوم، وأحجامها، ودرجة لمعان كل منها، ووضع فهرساً للنجوم لتصحيح أخطاء من سبقوه، وقد كان الصوفي أول فلكي يَرصد ويُلاحظ تغير ألوان الكواكب وأقدارها، وأيضاً كان أول من رسمَ الحركة الصحيحة تماماً للكواكب. علاوة على كونه أول من لاحظ وجود مجرة أندروميدا، ووصفها بـ "لطخة سحابية". وأيضاً كان أول من لاحظَ وجود سحابتي ماجلان الكبرى والصغرى. كما ويعتبر الصوفي مؤلف أكثر الكتب شمولاً لأبراج السماء.
وقد سجل التاريخ الإسلامي الكثير من أسماء العلماء الفلكيين وإنجازاتهم مثل ابن رشد الذي قدم أول التفسيرات البدائية والقريبة علمياً لأشكال البقع الشمسية، والطوسي، وابن الشاطر (1304م) العالم الدمشقي الذي أستطاع تحديد مداري عطارد والقمر، اللذين حيّرا علماء الفلك طويلاً، وابتكر الكثير من الأدوات المستخدمة في الرصد الفلكي والقياس والحساب، ومنها الساعتان الشمسية والنحاسية، والربع العلائي والربع التام.
ومن هذه الإنجازات نعلم أن مساهمة العلوم العربية كانت أساسية في ولادة علم الفلك وتطوره لاحقًا في الغرب اللاتيني. فقبل هذه المساهمة، لم يكن هناك بالفعل علم فلك بمستوى متقدم، حيث ما كان يُفهم على أنه علم الفلك كان بالكاد أكثر من مجموعة من الأفكار الكونية غير الدقيقة.
وقد قال القس البريطاني توماس موريل (1703-1784) واصفاً التقدم العلمي في مجالات علم الفلك من قبل العلماء المسلمين: "منذ زمن بطليموس، الذي يمكن اعتباره آخر علماء الفلك القدماء، من الواضح أن هذا العلم السامي، بعيداً عن التقدم في أي جزء من أوروبا أو آسيا، قد تراجع واختفى تقريباً حتى نهاية القرن الثامن، عندما حدث إحياء للأدب والعلوم بشكل عام، وخاصة علم الفلك، تحت رعاية العديد من الخلفاء المسلمين".