"المضحكخانة"
راسخة هي روح الفكاهة في نفوس المصريين قديما وحديثا، فالفكاهة كما يقول المتخصصون تحتاج إلى فضل من الذكاء ودقة في الحس ورهافة في الذوق والشعور، وكل هذا لا ينقص المصري، بل ولا نبالغ إن قلنا إن المصريين في غالبيتهم لديهم فائض من الفكاهة ينثرونها حيثما حلوا، ويوزعونها على من حضر جلساتهم أو شاركهم منتدياتهم.
وقائمة "المضحكاتية" المصريين مرصعة بأسماء خالدة كانوا إلى جانب قدراتهم الفائقة على التنكيت يمتلكون ذائقة أدبية رفيعة وحضورا إنسانيا جذابا.
ومن بين هؤلاء صاحب "المضحكخانة" الشيخ حسن الآلاتي الذي ذاع صيته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى رحل عن دنيانا عام 1889، كان أزهريا معمما يمتلك خفة ظل لا تبارى وحضورا فكها لا ينازعه فيه أحد، وقد تحول إلى الغناء ونظم الأشعار حتى ذاع صيته فلقب بالآلاتي وإن احتفظ بلقب الشيخ فصار الشيخ حسن الآلاتي علما على رأسه نار من نقد لاذع ونور من علم نافع.
وللشيخ الآلاتي كتاب لطيف سماه "ترويح النفوس ومضحك العبوس" يقول في مقدمته أنه اتخذ وجماعة من رفقائه الفكهين مقهى في حي الخليفة سموه "المضحكخانة" كانوا يجتمعون فيه على التندير والفكاهة وقد نصب الشيخ حسن الآلاتي نفسه زعيما لتلك الجماعة ثم يأخذ في سرد هزلياته من أزجال وغيرها، وهو في أكثر ما كتب أو نقل عنه يقلب المواقف الجادة إلى مرويات هزلية ويتحدث بثقة وجدية تربك سامعيه فلا يدرون أكان حديثه جادا أو هزليا.
وفيما ورد بالكتاب تهنئة بزفاف أحدهم جاءت على هذا النحو:
"تهنئة للسيد العتيد الأعمى البليد. قد سرنا ما سمعناه من النائحة، من عقد خرابيش المصونة، والدرة المكنونة، وإنه لما خفقت بالمضحكخانة إعلان السرور، وعم جميع المحبين الكدر والحبور، بزواج البنت، الست نسيم الصبا هانم سلالة الأخيار البهايم الشاب النشال الذي صار من الآن لقديم الزمان كثير المال فقير الحال".
وعلى هذا النحو يمضي الشيخ حسن الآلاتي في خط بياني صاعد وهابط فيصيب قارئه وسامعه بالذهول القائم على حجم ما تحمله عباراته من تناقضات ومفارقات مفردات المدح والقدح.
وهو في هذا الباب يسجل حضورا بارزا يعرض جانبا مهما من جوانب الفكاهة والسخرية القائمة على المفارقات اللفظية الموزونة بإحكام.
وفي سجل إبداعات حسن الآلاتي ما كتبه عن نفسه بمناسبة زواج ابنته، وهو يسير على نفس الوتيرة الجامعة للتناقضات إذ يقول:
كنت يوم في المندرة نايم ممطط
بعد موت أمي وأنا زعلان مزقطط
ما دريت إلا ونسوان جت بطبلة
اللي لابسه حبره واللي لابسه سبله
قلت للزوجة إلحقيني يا فلانه
قالت: اسكت دول نساء أصحاب أمانه
فيهم الحرة الكريمة أهل السيادة
ست دلالة حمير تسمى سعادة
ويمضي الآلاتي في هذا الصعود والهبوط الساخر احتفالا بزفاف كريمته.
ورغم موهبة الشيخ حسن الآلاتي الفائقة إلا أنه لم يحظ بالشهرة التي سجلها آخرون جاءوا بعده وساروا في دربه الساخر، ويرجع البعض ذلك إلى ضياع كثير من تراث الشيخ الآلاتي الشفهي وما كان يسجله في محاورات "المضحكخانة" في مقهى حي الخليفة الذي لم يعد له أثرا الآن.
وللمقهى في تاريخ مصر الحديث دور بارز فقد كان المقهى هو البرلمان الشعبي وساحة الأدب المفتوحة دوما لكل صاحب موهبة.
ويكاد لا يخلو مقهى شعبي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من أديب ساخر أو جماعة هازلة.
ومن عباءة الأزهر الشريف خرج أديب آخر ذاع صيته في مطلع القرن العشرين وهو الشيخ عبد العزيز البشري الملقب بجاحظ العصر الحديث ومثلما قدم الشيخ حسن الآلاتي كتابه ترويح النفوس قدم الشيخ البشري كتاب " قطوف"، الذي جمع فيه مقالاته التي كان يكتبها بروحه الساخرة الناقدة فكان أدبه أشبه برسم كاريكاتوري يعرض فيه لجوانب سلبية عديدة في المجتمع الناس وفي رجال السياسة والحكام سواء بسواء.
ومن أشهر لوحاته الكاريكاتورية الساخرة ما دونه عن صديقه السياسي المعروف في مطلع القرن العشرين الدكتور محجوب ثابت واشتهر بأنه سياسي مشوش يكثر من الخطب السياسية والأحاديث عن نفسه ورحلاته في أوروبا وكان يكثر من استخدام حرف القاف وينطقه بطريقة خاصة صارت لازمة له.
المهم يقول الشيخ عبد العزيز البشري عن الدكتور محجوب ثابت: "لا شك أن الدكتور محجوب ثابت يعد بحق في ميراثنا القومي ولو – لا أذن الله – جرى عليه القدر لكان لابد للأمة من (دكتور محجوب ثابت) بأي طريقة من الطرق نعم هو في ميراثنا القومي لا يقل عن آثار سقارة وجامع السلطان حسن ومقابر الخلفاء ولقد أصبح على الزمان جزءا من تقاليدنا الأهلية كحفلة المحمل ووفاء النيل وركبة الرؤية وشم النسيم".
ويمضي البشري في رسم لوحته الكاريكاتورية عن صديقه محجوب ثابت فيقول: "والدكتور محجوب ثابت عريض الألواح بعيد مدى العظام لولا أن في جسمه رهلا أميل إلى الطول فإذا مشي خلته أحدب وما به من حدبة ولكنه انحناء الظهر من ثقل التبعات لا من ثقل السنين".
ثم يضيف عن استخدامه حرف القاف "أما قافاته فحدث عنها ولا حرج. جزت مرة بداره فرأيت فتاتين صغيرتين تتلاعبان فقالت إحداهما للأخرى: "هذا بيت الدكتور؟ فسألتها ومن الدكتور؟ فقالت: ألا تعرفين الدكتور الذي يقول: يابنتي هاتي القبرة (الإبرة)".
ونتوقف هنا عن سرد ما تيسر من سيرة "المضحكخانة" لنلتقي في الأسبوع المقبل مع قصص أخرى عن ظرفاء مصر في العصر الحديث.