أسعار العملات

دولار / شيكل 3.29
دينار / شيكل 4.64
جنيه مصري / شيكل 0.21
ريال سعودي / شيكل 0.88
يورو / شيكل 3.92
حالة الطقس

القدس / فلسطين

الجمعة 20.24 C

إعلانات وتمثيليات

أرشيفية

أرشيفية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

أشفقت على الكثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء الذين عبروا عن عدم رضاهم، بل وغضبهم الشديد، على كثرة الإعلانات التى تتخلل التمثيليات الرمضانية، وتفسد متعة التصاعد الطبيعى للأحداث، وما فيها من إثارة. العمل الدرامى فى عمومه له درجات من الاشتباك مع المشاهد، وحتى فى أسوأ أنواعها فإن الناظر ينتظر فى انتظار أن يعرف إلى أين يقود كل هذا السخف؟ هى، على أى الأحوال، أحوال رمضانية، عرفناها كثيرا خلال الأعوام الماضية، وجعلت كبار السن منا (٤٪ من المواطنين فى حدود ما أعلم يتجاوزون الخامسة والستين) يعودون بخيالاتهم إلى الماضى السعيد حينما كانت تمثيليات أسامة أنور عكاشة تصل إلى دوراتها كل عام مع القليل من الإعلانات التى تبث فيما بين الفقرات.

هذه المقارنات فيها نوع من التقريع للأجيال الجديدة، وحتى الحكم على مسلسلاتهم حتى قبل الانتهاء منها. كل ذلك على مشروعيته من حيث حرية التعبير عن الضجر فإنها تتجاهل قوانين العصر وهى أنه لكل غذاء ثمن، وأن إذاعة المحطة التليفزيونية للمسلسل يتضمن تكلفة، والمسلسل ذاته له تكلفة وعالية أيضا، وإذا أضيف إلى ذلك تكاليف نقل المسلسل والكهرباء التى يستهلكها، فإن الإعلانات تغطى جزءا من ذلك، وبعد ذلك فإنها تغطى جزءا من التكلفة الوطنية من خلال الضرائب التى تفرض عليها فيما نأمل.

والحلقة هكذا معقدة ومتشابكة، وربما على المواطن أن يشعر بالسعادة والامتنان لأنه فى النهاية سوف يحصل على منتج يحدد هو نفسه إذا ما كان جيدا فيستمر فى مشاهدته، أو سيئا فينتقل إلى مسلسل آخر، فهناك الكثير الذى يكفى الاختيار، وسواء كان هذا أو ذاك فإنه سوف يحصل على ذلك بالمجان تقريبا، بينما تدفع الإعلانات الفاتورة كلها.

حينما ذهبت طالبا إلى الولايات المتحدة فى عام ١٩٧٧، كان التليفزيون الأمريكى يعتمد على ثلاث شبكات رئيسية (CBS،NBC، ABC) ومعها شبكة عامة وحيدة تمولها الدولة هى PBS. وفيما عدا هذه الأخيرة فإنها جميعا كانت تعتمد على الإعلانات، وبالطبع كانت هناك أعداد كبيرة من المحطات المحلية التى كانت تابعة بشكل أو آخر لتلك الكبرى، وهذه بدورها كانت تعتمد على الإعلانات.

كانت هناك كثرة فى التمثيليات التى يمتد بعضها سنوات وعقودا، وكانت هناك تمثيليات خاصة للسهرة، ومعها عدد غير قليل من الأفلام. كانت الأخبار قليلة، وهذه على قلتها زادت أثناء الحرب الفيتنامية، ولكن ما جعلها تنفجر وتزيد جرت مع الثورة الإيرانية وعندما اختطفت الثورة الدبلوماسيين الأمريكية، ثبت أن أخبار الدنيا، وأخبار أمريكا لا تقل إثارة عن قصص الهروب ومتابعة «الهنود الحمر»، والمطاردات الكبرى بين أشكال وأنواع من المجرمين، وما لا يقل عنهم عددا من الضحايا، وأكثر من هؤلاء جميعا كان رجال الشرطة والقضاة وبالطبع المحامون. أصبح التليفزيون قوة، والقوة تمولها الإعلانات.

رجعت إلى مصر عام ١٩٨٢، وعدت إلى أمريكا مرة أخرى ولعام كامل فى ١٩٨٧، وكانت دنيا الإعلانات والتمثيليات قد انقلبت رأسا على عقب. كانت القنوات الإخبارية مثل CNN وتوابعها قد ظهرت، وقنوات متخصصة أخرى، وكلها فى انتشارها وتأثيرها باتت تعتمد على الإعلانات هى الأخرى. ولكن المستهلك شكل طلبا غير قليل من أجل أن يحصل على ما يريده دون مقاطعة، فكان هناك تليفزيون بالطلب ON Demand تحدد فيه ما تريد مشاهدته، والوقت المناسب لسيادتكم. وفيما بعد وخلال رحلة أخرى فى عامى ٢٠١٤ و٢٠١٥ كانت الأمور التليفزيونية قد خرجت عن السيطرة، وفى ذلك الوقت فقط أدركت أنا وزوجتى أن هناك فارقا كبيرا بين الإعلانات الأمريكية وتلك المصرية لصالح هذه الأخيرة. كانت الأولى فيها الكثير من السخف، والتسول الثقيل لتمويل المستشفيات ودور العبادة، أو ما سمى التبشير التليفزيونى، والبضائع التى يقال عنها ما يسحر بزوال الصداع، ولكنها تضيف ضجرا- تبعا للقانون- كل الآثار السلبية.

الإعلانات فى مصر فيها الكثير من المرح والبهجة، والموسيقى والغناء، وإذا كان بعض من ذلك مجانا، فإن الطبيعى أن يضاف إليه قدرا من السخف. وفى الحالتين فإن الفقرة الإعلانية تكفى لتخفف من وطأة المسلسل للقيام ببعض الأعمال المهمة من اتصالات تليفونية إلى إعداد الشاى، وربما دخول بيت الراحة، أو الحصول على غفوة سريعة.

فى عام ٢٠١٧ دخل التليفزيون معى إلى ساحة جديدة عندما قمت بالاشتراك فى شبكة Netflix، حيث لم تعد التمثيليات مرتبطة فقط بجهاز التليفزيون وإنما بات ممكنا الوصول إليها من أى وسيلة إلكترونية أخرى، وبدون إعلانات تماما. ولم تمض سنوات طويلة حتى بلغ عدد المشتركين فى الشبكة ويشاهدون التمثيليات، ومعها الأفلام أيضا، ٢٠٧ ملايين مشترك من العالم كله. أصبح التليفزيون عالميا لأنه بات يبث تمثيليات مصرية وإسبانية وكورية، وكلها يمكن ترجمتها وبثها حسبما تريد تقريبا.

ومع الشبكة جاءت شبكات أخرى، وزاد الإنتاج من التمثيليات بكافة الأشكال، وكلها بدون إعلانات. أصبحت هناك شبكة عربية (شاهد)، وشبكة مصرية أيضا تعتمد أساسا على الإنتاج المصرى (Watch it) أى شاهدها. وهذه خلال عامين فقط حصلت على قدر غير قليل من الاشتراكات (المعلومات غير متوافرة) ولكنها بالتأكيد تضيف اختيارا آخر للمشاهد وبدون إعلانات أيضا اللهم إلا من إعلان واحد بين كل حلقة أو أخرى ويمكنك تجاوزها أيضا.

«الباقة» هكذا واسعة للغاية، وقد وصلتنا من العالم الخارجى، بأسرع مما وصلت من قبل باقات أخرى، ولم يعد هناك سبب حقيقى للتذمر من الإعلانات، وعلى أى الأحوال، فإن عودة «شريهان» ربما تعطى سببا إضافيا للمتعة لمن لديهم «نوستالجيا» ويريدون عودة دائمة إلى الماضى «الجميل». الباقة الأكبر متواجدة فى التمثيليات التى تميزت هذا العام بالجرأة، والكشف عن الماضى، ومواجهة التعقيد الكبير لواقع مجتمعنا ربما يعطينا ما نفكر فيه لدى أكثر من ١٠٠ مليون نسمة من تراكيب اجتماعية وقضايا سياسية وفوارق ثقافية.

وللمغرمين منا بالاقتصاد عليهم أن يلاحظوا فقط الإعلانات وما تعبر عنه، وإنما أيضا التمثيليات التى نفخت فى روح صناعة التمثيل والرواية والسيناريو والحوار والتركيبات التكنولوجية التى توظف ذلك كله فى أعمال فنية تضيف إلى الناتج القومى المحلى والضرائب القومية، وكم هائل من فرص العمل، وفرص عظيمة للنقاد للتشريح والتقييم والنقد، والمدح والقدح. هى صناعة كبرى، يمكنها أن تنمو إذا ما كتب لها أن تسمح بقدر أكبر من المنافسة، ومساحات أكبر من الجرأة. ومن الناحية المصرية الوطنية البحتة فإن التمثيليات تعلن بدايات فوز وانتصار على المسلسلات التركية، وتقدم زادا جديدا للسوق العربية الفنية طال غيابه.

سوف يظل اللغز الكبير لماذا يكون رمضان هو شهر التمثيليات والإعلانات، والشراء الكثير والغذاء الذى يتحدى كل أشكال «الدايت»، وشهر الإحسان والبهجة. ربما يكون الشهر الكريم هو المقابل لشهر ديسمبر أو «الكريسماس» فى الغرب، والحقيقة أننى لا أعرف ما هو المقابل له فى الشرق، ولكن لابد أن يكون لكل جماعة أزمنة خاصة للاحتفال، وأخرى للحزن. ما ينبغى أن نشعر به فخرا أن الشهر له مذاق مصرى خالص، وهو قابل للتصدير والنمو والاتساع. وإذا كانت الإعلانات مزعجة رجاء الاتجاه إلى مكان آخر فى الباقة!

 

اقرأ أيضا