القــوّة والشّرعيّة
كتب: عبد الإله بلقزيز
مع أنّ القوّةَ ملازِمةٌ للسّياسة، ووسيلةٌ من أفعل وسائلها لتحقيق أهدافها، إلاّ أنّها لا تكفي وحدها كي تصنع للسّياسة (والسّلطة) مقامها وتفرض الاعتراف بها، بل ولا تكفيها حتّى لانتظام أمْر اشتغالها.
والأنكى من ذلك أنّ تضخُّم فعْلِ القوّة في السّياسة والسّلطة آخذٌ إيّاهما إلى أحوالٍ من التّناقض والتّأزّم ترتدُّ نتائجُها عليهما. وهذه ليست مقولة نظريّة نبنيها على معادلةٍ ذهنيّة مّا للعلاقة بين السّياسة والقوّة، أو لِما ينبغي أن تكون عليه العلاقةُ هذه، وإنّما هي حقيقة موضوعيّة تَواتَر التّعبيرُ الماديّ عنها في تجارب التّاريخ؛ في تجارب السّلطة وسياسات الدّول.
ومن البيّن أنّ القوّة لا تصنع شرعيّة، كما قال جان جاك روسو، وأنّ الإخضاع الاضطراريّ الذي تفرضه على مَن تَقَع عليه (تلك القوّة) لا يَقْبَل الصّيرورة إلى قبولٍ طوعيّ للخضوع؛ الذي هو شرطٌ لازِبٌ لكلّ سيطرة كي تتحصّل لنفسها الاعتراف بها والمقبوليّة المجتمعيّة. ولمّا كان يمتنع مثلُ هذا التّحصيل من طريق فعل القوّة، لا يبقى للسّياسة حينها إلاّ أن تسلك مسْلكاً آخراً لا يكون الإرغامُ الماديّ من وسائله؛ أعني مسْلكاً يؤمِّن لسلطة الفرد على الفرد، أو لسلطة نخبةٍ على مجموع، ضمانتها بأن تكون مقبولة أو معتَرفاً بها من قِبَل مَن تمارَس عليهم. وليست الضّمانة التي نعني سوى الاتّفاق أو التّوافق بين قوى الجماعة السّياسيّة (الوطنيّة أو الدّوليّة)؛ هذا الذي تصير به السّياسةُ والسّلطة مشروعة، ويكون به قيامُها وعملُها تعبيراً عن إرادة عامّة: إرادة من يمارسونها وإرادة من يَقَع عليهم فعْلُ الممارسة تلك.
اهتدتِ الفلسفة السّياسيّة الحديثة إلى هذا الحلّ الأمثل منذ القرن السّابع عشر، ودارت أطروحات فلاسفتها على فكرة الاتّفاق بما هي القاعدة التي عليها مبْنى الدّولة أو المجتمع السّياسي، وبما هي الوسيلة إلى حيازة السّياسة والسّلطةِ المشروعيّةَ المجتمعيّةَ الضّامنة للحقوق والحرّيات، وللسِّلم المدنيّة والاستقرار. وأُطْلِق على الاتّفاق ذاك الاسمَ الذي يناسبُه ويطابِق جوهره: العَقْد الاجتماعيّ. والعقد، في معناه المباشر، اتّفاقٌ معلَن بين شريكيْن فيه أو شركاء؛ وهو لا يصير عَقْداً إلاّ متى وَقَع الاتّفاق والتّراضي على بنوده وشروطه بين الموقّعين عليه؛ والتّراضي لا يحْصُل إلاّ متى كانت هناك تنازلات متبادَلة، ونصٌّ على حقوق مرعيّة ومحميّة، ومساحةٌ من الجوامع والمشتَرَكات التي منها تتولّد مصلحةٌ مشتركة. ولم تكنِ الدّولةُ الوطنيّة الحديثة، التي انطلق بناؤها منذ القرن السّابع عشر وصقلتْها الثّورات الغربيّة المتعاقبة (الثّورتان الإنجليزيَتان الأولى والثّانية، الدّستور الأميركيّ و"الثّورة" الأميركيّة، الثّورة الفرنسيّة)، إلاّ محاولةً لتجسيد هذه الهندسة النّظريّة للدّولة تجسيداً ماديّاً في الواقع الاجتماعيّ.
أُعيدَ تجريب هذا المنوال السّياسيّ، الذي قامت عليه الدّولة الحديثة، جزئيّاً حين بدأ التّفكير في إقامة نظامٍ دوليّ بعد الحربين العالميّتين الأولى والثّانية. هكذا أتى نظام هيئة الأمم المتّحدة - بعد فشل سابقه (عصبة الأمم) يستنسخ فكرة التّوافق والاتّفاق ويترجمها في صيغة "عقدٍ" من نوع خاصّ هو ميثاق الأمم المتّحدة. ومع أنّ الذين توافقوا على هذا "العقد" واحتازوا امتيازات فيه (العضوية الدّائمة في مجلس الأمن، حقّ النقض...) لم تكن دولُ العالم كافّة، بل الدّول المنتصرة في الحرب حصراً، إلاّ أنّ بعضاً من مكتسبات العقد عادت بمنافع على دول المنظومة الدّولية (احترام السّيادات الوطنيّة، التمتّع بحماية القانون الدّولي، الاستفادة من برامج الأمم المتّحدة الإنمائيّة...)، فبدا وكأنّه يُخرج العالم من الفوضى وقانون الغاب (حقبة الاستعمار مثالاً)، أو ممّا كان يدخل - عند فلاسفة العقد الاجتماعيّ- في نطاق أحكام حالة الطّبيعة.
إن أخذنا تينك الهندستين النّظريتين للمجتمع السّياسيّ (الوطنيّ) ولِـ «المجتمع الدّوليّ»، على قاعدة فكرة التّوافق والعقد، لن تفوتنا ملاحظةُ ما تنطويان عليه من ميِّزات ومكتسبات؛ فهُما معاً تسلّمان بأنّ السّياسة والسّلطة لا تتحصّلان مشروعيّةً إلاّ من طريق الاتّفاق والتّراضي؛ وأنّ هذين يُتَرجَمان في عَقْدٍ مكتوب حاكم؛ وأنّ القانون يُشْتَقّ منه وتُوضَع أحكامُه تناسُباً مع روحه كعقد؛ ثمّ إنّ الشّركاء في هذا الاتّفاق، وفي النّظام الذي يقوم عليه، متكافئون في الحقوق التي تُرتّبها الشّراكة: مواطنين كانوا أو دولاً متمتّعةً بالسّيادة. ومع ذلك، بقيتِ المسافةُ وسيعةً، في التّاريخ المعاصر، بين هذه المبادئ العليا التي أبْدعها العقلُ البشريّ، والتّعبيرات الماديّة السّياسيّة التي "استلهمتها" أو بَنَتْ عليها. بل كثيراً ما شهِدنا على انتهاكات سافرة لتلك المبادئ في الممارسات السّياسيّة داخل الدّولة، كما داخل "المجتمع الدّولي"، إلى الحدّ الذي بدا فيه التّجافي بينهما واضحاً؟
لِمَ حصل ذلك، وما الذي يفسّره؟
حصل نتيجة انفلات مبدأ القوّة ممّا يَعْقِله ويفرض عليه القيْد في ميدان السّياسة. والانفلات هذا - وهو متكرّر ومتواتر بإيقاعٍ تصاعديّ منذ القرن الثّامن عشر- لم يحصل إلاّ نتيجة رسوخ عقيدة القوّة في الوعي الغربيّ؛ العقيدة الموروثة عن عهود سابقة (= رومانيّة) والمتجدّدة في امتداد نجاحات الغرب وفتوحاته (النّهضة، الإصلاح الدّينيّ، الثّورة العلميّة، الثّورة الصّناعيّة...)، والتي حاول بعضُ الوعي التّنويريّ أن يَحُدّ من جِماحها قبل أن تنقلب عليه!