سوريا بعد زيارة وفد سعودي
كتبت: فاطمة ياسين
لفت خبر زيارة وفد سعودي ترأسه رجل أمن كبير إلى سورية، الأسبوع الماضي، أنظار المهتمين، واستهلك بعض التحليل السياسي، ثم أُدرج ضمن سلسلة من المواقف المستجدّة التي تعتري المنطقة، منذ أقام جو بايدن في البيت الأبيض، فهناك اتصالاتٌ إيرانيةٌ سعوديةٌ يقف في منتصفها العراق، ومحادثاتٌ تركيةٌ ومصريةٌ تشكل ليبيا جزءاً مهماً منها، ومحادثاتٌ أخرى متقطّعة في فيينا تهدف إلى إعادة الحالة النووية في الخليج إلى ما قبل لحظة دونالد ترامب. لا يُتوقع من الخطوة السعودية الكثير على المستوى السوري، فالتغيرات الكبيرة تجري دفعة واحدة، وما يحدُث مجرّد تحرّكات سياسية تستهدف السبر والتقصّي وإضاعة الوقت أو كسبه. وزيارة الوفد السعودي ليست سياقاً آخر، بل هي جزءٌ من المشهد السياسي العام، فالمشكلة السورية أنتجت معضلةً جغرافيةً بحاجةٍ هي الأخرى للحلّ، ولن يستطيع رجل أمن سعودي أن يحلّها، وإن تباحث مع رجل أمن سوري مثله، مهما بلغت درجة أهميته، والفالق الجغرافي أصبح عميقاً، إذ يحتاج زلزالاً سياسياً قوياً لإعادته إلى ترتيبه الأول.
الحرب السورية الطويلة، بعد أكثر من عشر سنوات من المواجهات، أنتجت ثقافة جغرافيّة جديدة، تغذّت على شكل الإرادات الخارجية ومواقف الدول الداعمة، فالنظام الذي تغير كثيراً، مع المحافظة على نواته الأمنية، اقتنع على مضضٍ بما لديه من واجهته البحرية الشرقية، وهي مطلب روسي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى حدوده مع الأردن، وحدوده الأخرى مع العراق التي يسيطر على بعضها، فتشاركه بها أميركا التي تحتل قطاعاً واسعاً حول التنف، وبيدها المعبر المسمى بالاسم ذاته، وهي من هذه المنطقة تراقب كلّ ما يجري على الحدود، وتمسك تنظيم الدولة الإسلامية الذي ما زال، بشكل خاطف، ينفذ عملياتٍ محدودة ضد جنود النظام، أو ضد تجمّعات الكرد العسكرية. تشكل الضفة الغربية للفرات حدّاً فاصلاً لما بين يدي النظام من جغرافية، وهذا القطاع جمهورية ناقصة الموارد، تفتقد إلى الوقود والقمح اللازمين للحياة، يمكن للنظام أن يمارس ما يرغب به من تحرّكات أمنية فيها، لكنّ المنطقة يلزمها الكثير، وهي بحاجة لإدارة تختلف عن العقلية التي تسيطر عليها الآن.
المنطقة الكردية، وهي تشمل ضفة الفرات الشرقية وحدود سورية ما قبل عام 2010 مع العراق وتركيا، وهذه المنطقة ترعاها أميركا، وتحرص على الوجود فيها. وعلى الرغم من سحب بايدن قوات بلاده من أفغانستان، فمن غير الوارد أن يتخلى عن هذه المنطقة، لأنّها معادل عسكري وسياسي للوجود الروسي هناك. لكنّها على الرغم من وفرة الموارد النفطية والمائية فيها فهي محاطة بالأعداء من كلّ جانب، ولا بدّ لها من توثيق الصلة بأحد الأطراف، لتضمن لنفسها شريان حياة. ومناطق النظام هي المرشّح الأكبر لهذه المهمة. يدرك الكرد هذه النقطة. لذلك يحتفظون بأبوابٍ مواربة مع نظام الأسد، للحديث المباشر أو عبر الروس. المنطقة الثالثة هي ما تبقى من سورية، وتقع تحت سيطرة مليشيات إسلامية معتدلة ومتشدّدة، تلعب فيها تركيا دور الراعي، وهذه منطقة غير مؤهلة للاستمرار، نظراً إلى وضعها الداخلي وعلاقاتها المضطربة مع المحيط، وتحتوي معظم النازحين والمهجّرين، وليس فيها من الموارد أكثر من الزراعات المحصولية قليلة المردود. وفي النهاية، ستكون ورقةً تستخدم عندما تحين لحظة التسوية الكبرى.
ضمن هذا الحيّز الجغرافي الملتهب، من الصعب أن يقوم رجل الأمن السعودي بأيّ اختراق، فهذا الفضاء متوزّع الولاءات وعميق الانقسامات، وأخذ يشكل لنفسه إرثاً انتقامياً، فيما تصرّ الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والدول الصديقة لسورية والعدوة لها على أنّ الحلّ سلمي، من دون أن يعرف أحد توصيفاً شافياً لهذا الحلّ. يمكن للوفد السعودي أن يؤسّس لعلاقةٍ مع النظام تنتهي بفتح مكتب تمثيلي أو حتى سفارة، من دون أن تؤثر هذه العلاقة على الوضع العام الذي ينتظر تحرّكاً فعالاً وإرادة للحلّ.