أسعار العملات

دولار / شيكل 3.29
دينار / شيكل 4.64
جنيه مصري / شيكل 0.21
ريال سعودي / شيكل 0.88
يورو / شيكل 3.92
حالة الطقس

القدس / فلسطين

الجمعة 20.24 C

الطفلة نهلة

أرشيفية

أرشيفية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

الكومبرا شيكوس، كلمة إسبانية تعني «شاري الصغار» وهم جماعة مرتحلة لأفراد ذاع صيتهم في القرن السابع عشر، وارتبطوا بالحدث الهائل، حدث العبودية، لأنهم كانوا يتاجرون بالأطفال، ويصنعون منهم مسوخاً لأجل الضحك. وقد كتب عنهم الأديب والروائي الفرنسي فيكتور هوغو في روايته «الرجل الضاحك، ١٨٦٩».

وإن «كان هناك طفل مخصص ليكون لعبة في يد الرجال، فقد كان ذلك موجوداً» ولا يزال موجوداً، ليس في القرون السابقة، بل واليوم كذلك، لأن الغاية من الكومبرا شيكوس لم يكن فقط المتاجرة بالأطفال ليجعلوا منهم مهرجين في قصور اللوردات والملوك، بل والحط من مرتبة الإنسان، وذلك بتشويه وجه الطفولة، العمل الذي لم يكن اعتباطياً بقدر ما كان صنعة دقيقة غرضها تشويه الجمال الرباني، وسلب كرامة الإنسان.

ولو نظرنا إلى الواقع لوجدنا ذلك في زماننا هذا لكن بصور مختلفة. فالكومبرا شيكوس ليسوا جماعة عابرة في التاريخ الإنساني، إنه منهج مرتبط بالواقع السياسي وبالظروف المأساوية التي نتجت عنه. وقد كان وجودهم في القرنين السابع والثامن عشر مسكوتا عنه، لأنهم كانوا متورطين في خدمة البلاط الحاكم وخدمة الملك، فكان فعلهم سياسياً، والتشويه الممارس على الأطفال وكانوا يتفننون به، كان مرتبطاً بالقوة السياسية التي كانت تحميهم. وهذا ما له علاقة بواقعنا. صحيح أن الأمور لا تجري على هذا النحو في أيامنا هذه، ولم يعد الأطفال يجبرون على ارتداء القناع الحديدي، لكن ذلك لا يعني إطلاقاً أن العنف ضد الأطفال قد انتهى، لأنه متأصل في السياسية والمجتمع.

وإذا كان غوينبلين، بطل رواية فيكتور هوغو، يجبر زمانه على رؤية الظاهر المظلم من الواقع، والعتمة في المجتمع الذي يعيشه، فإن نهلة العثمان الطفلة السورية، تدلنا إلى ذلك الظاهر عندما كانت في قفصها الحديدي الذي صنعه والدها. إن تلك العتمة تنتقل من أبشع صورها التي استأثر بها النظام السوري، وبأفعاله الشريرة، وقد بثت هذه الظلمة في الإنسان السوري وفي مجتمعه حيث يتسول فيه الأطفال في شوارع دمشق، وصار يرى طفلة مقيدة بسلاسل حديدية دون أن يُحرك ساكناً لأجلها، ليبدو أن هذا المجتمع الذي أنتجته سنوات من العنف، قد تحول إلى نوع آخر، وصار متماهياً مع كل شيء حوله، مهادنا لفكرة القمع نفسها التي خرج ضدها، كمؤشر خطير على موت الروح في داخله، وتقبل فكرة حبس طفلة في قفص حديدي لمدة أشهر دون الدفاع عنها، ويمارس عليها التعذيب الذي ينتمي إلى العصور القديمة، يوم كان دارجاً في الثقافات القديمة بأن الأطفال يقدمون إلى الآلهة كقرابين لإرضائها، بوصفهم حدثاً مقدساً، ومثلما كان سائداً بأن قتل الأطفال المتخلفين عقلياً، يحمي آباءهم من الجن الذي تلبس بهؤلاء الأطفال.

غير أن الموت غير المألوف يذكرنا بأنه لم نتجاوز تلك العصور. فالأسباب التي كانت محركة لموت الطفلة نهلة، هي نوعاً من القسوة الشيطانية التي قد تلبست والدها، وكان يعذبها بحجة أنها تعاني من مرض عصبي. إذاً إن موت نهلة، هو حدث غير عادي، لأنه يدل على حجم الجهل والبشاعة، ولما فيه من رمزية مأساوية، في أطفال يتم تعذيبهم على هذا النحو، محرومين من الحقوق والرعاية، ليغدو لسان حالهم يقول اقتباساً من فكتور هوغو «وفي ليلة عاصفة كنت جداً متروكاً ويتيماً، ودخلت إلى تلك الظلمة التي تسمونها المجتمع».

إن حال الأطفال في سوريا لا يشبه حال الأطفال العاديين، في ذلك الدخول السهل إلى الحياة في سنوات من الحرب والجوع والتشرد. إن نهلة التي ولدت في الحرب لم تعرف أصلا بعد فكرة المجتمع، وليس الموت وحده من حرمها من ذلك، بل واقع سوريا من دفعها، وقبل كل شيء، إلى ذلك المصير، وبالانفصال عن أمها ومكابدة حياة المخيم الذي فيه من الحرمان ما يمكن أن يجمد الدم في العروق، ذلك الحرمان كان من الصعب عليها تجاوزه مع أب قاسٍ، ليس لأنه عديم الرحمة فحسب، بل بما يمثله من عنف ذكوري لأحد عناصر هيئة تحرير الشام التي تمارس بطشها وإيديولوجيتها على سكان المخيم الّذين كانوا يخشون الحديث عن الأمر، خوفاً من هيئة التحرير، فارتبط فعله بشأن سياسي حينما جُرد محيط نهلة من حق الدفاع عنها ضد الأفعال البربرية التي كانت تمارس عليها.

وإن موت نهلة ليس حدثاً عابراً. إن الطفلة الشقراء التي ظهرت في حلّة متسخة في أحد الفيديوهات، كانت بائسة وجائعة، تطلب الطعام الذي حرمها منه والدها عن عمد حيث كان يطعمها عندما يريد، لا عندما كانت تشعر بالجوع. إنه حدث وحالة سورية، وعندما يكون سبب موتها كما جاء في التقرير الطبي «الاختناق بسبب الطعام» أي العجلة في ابتلاع الطعام لكي يدخل جوفها الجائع بسرعة، فإن هذا الاختناق بمنزلة اختناق سوريا كلّها، وصرخة إنسانية كما جاءت على لسان غوينبلين قائلاً «أنا العالم كلّه وأنتم الوهم، أنا الواقع، أنا الإنسان، وإني أجسد كل شيء».

لقد كان الكومبرا شيكوس «رابطة أكثر مما هي قوم، وحثالة أكثر مما هي جماعة، وتجمعاً لأنذال العالم» وإن نهلة عثمان هي الصيحة المتجددة في وجههم جميعاً، وصورة قفصها الحديدي هي الرعب الذي صار ظاهراً في سوريا، وأن التعذيب الذي كان سائداً في العصور القديمة، وكان يمارس عليها، يبدو شكلاً من أشكال العبودية التي لم تختفِ بعد، إنه متجدد، صاغه أولاً العنف الأسدي منذ تعذيب أطفال درعا، وأكمله بقية الحثالة. وذلك يعيدنا إلى الزمن البيزنطي، إلى زمن الكومبرا شيكوس، إلى زمن يوسف عندما باعه إخوته كفصل من فصول القباحة البشرية.

 

اقرأ أيضا