معركة الذاكرة في حي الشيخ جرَّاح
كتب: مالك ونوس
يخوض الشعب الفلسطيني حرب وجود، وفيها تعدّ معركة الذاكرة من أهم المعارك التي خاضها هذا الشعب بجدارةٍ لمواجهة حرب التهويد التي فُرضت عليه، منذ النكبة التي ابتُليت بها بلاده سنة 1948. ولعل مقولة "الكبار سيموتون والصغار سينسون" التي أطلقها أول رئيس وزراء إسرائيلي، بن غوريون، من أكثر المقولات استفزازاً وتحدّياً لأبناء الشعب الفلسطيني. غير أنها، ومن دون أن يدري مطلقها، والإسرائيليون الذين ما زالوا يتبنّونها، أدخلت اليقظة إلى ذاكرة الفلسطينيين، من أجل عدم نسيان أرضهم المسروقة، وتاريخهم الذي يحاول الإسرائيليون طمسه. وبرزت إرادة الحفاظ على الذاكرة، أخيراً، في معركة إنقاذ منازل حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، وما تلاها من تطوّرات، لتعيد التذكير بأن الصراع التاريخي في المنطقة لم يتغيَّر، وما تزال قضية فلسطين بؤرته.
وفي إطار التنظير لزرع المستوطنات أجساماً سرطانيةً، تهدف إلى ابتلاع ما تبقى من أراضٍ يملكها الفلسطينيون، لمس الجميع آخر فصول محاولات حرف المفاهيم في المنطقة، ومنها مفهوم الصراع وتبديله، ليصبح التركيز على الصراع الخاص بالبرنامج النووي وتهويل مخاطره على دولة الاحتلال والدول العربية، من أجل التقليل من أهمية الصراع الذي تشكّله القضية الفلسطينية، مقدمةً لإسقاطه عن جدول أعمال الدول والقوى الإقليمية. وتزامنت هذه السياسة التي يحاول الإسرائيليون تسويقها، مع إعلان يهودية الدولة العبرية عبر إقرار الكنيست الإسرائيلي "قانون الدولة القومية لليهود" قبل عدة سنوات، والتضييق على الفلسطينيين لإجبارهم على إعلان الولاء لهذه الدولة، من أجل إسقاط كل ما هو عربي وفلسطيني من وجدانهم.
ينطلق الإسرائيليون في هذا المسعى مما تأكد لهم من استحالة إسقاط حق العودة من وجدان الفلسطينيين، ومن صعوبة احتواء الخطر الديموغرافي العربي الذي يشكِّل هاجساً لكيانهم. كما ينطلقون من سقوط روايتهم التي كانوا يحاولون فرضها على الجيل الجديد من فلسطينيي أراضي 48، وغيرها من المناطق. تلك الرواية التي تتناقض والرواية التي بدا أن الفلسطينيين، كباراً وصغاراً، لم ينسوها، بل أظهروا في كل مناسبةٍ نضاليةٍ، منذ النكبة، أن وعيهم لهذه النكبة والمخطّطات التي تلتها، والمسببة مآسيهم، لم يتأثر بمحاولات التشويه وفرض الرواية الإسرائيلية.
يكفي الإسرائيليين ما رأوه في حي الشيخ جرّاح من مقاومة أهله محاولات سرقة منازلهم، ومن صعوبة رضوخهم للقرارات القضائية الإسرائيلية، فوقفوا في وجههم مسلّحين بذاكرةٍ تخبرهم أن الأرض أرضهم، وما يقع فوقها، وما يوجد تحتها، هو أيضاً ملكهم. ويكفيهم ما رأوه من قوة انتماء لدى الفلسطينيين، ومن مظاهر عودة الوعي إلى كثيرين منهم، ومن انتفاضةٍ عمَّت كل الأراضي أخيراً، وبرزت فيها مظاهرات فلسطينيي مدن الداخل، اللد والناصرة وحيفا ويافا والرملة وغيرها، والذين لم يتخلوا عن هويتهم، وأكدوا أن قضية شعبهم جامعة لهم جميعاً، مؤكّدين بذلك عمق الصلات التي لم يستطع تقسيم الجسد الفلسطيني تمزيقها. يكفي الإسرائيليين ذلك كله لكي يُصابوا بالإحباط، مع ما تأكد لهم أن الفلسطينيين الصغار لم ينسوا، ليجدوا البرهان على أن مقولة بن غوريون التي أطلقها قبل أكثر سبعين سنة لم تتعدَّ كونها رهاناً سرعان ما خسر.
ربما من أهم ما برز خلال الهبّة أخيرا أن السياسة الإسرائيلية المتبعة منذ النكبة لتقسيم الجسد الفلسطيني، أرضاً وشعباً، لم تستطع تكريس هذا التقسيم، على الرغم من جرعات القوة التي كانت تكتسبها خلال مسيرة تأسيس الكيان. وخلال السنوات الأخيرة، وصلت الجرعات التي اكتسبتها دولة الاحتلال إلى درجةٍ من القوة والتنوع تجعلها كفيلةً بأن تُدخل الشعب الفلسطيني في دوامةٍ من الإحباط؛ إذ انهمرت عليها تلك الجرعات من كل حدبٍ وصوبٍ، بدءاً من إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، "صفقة القرن" التي تهدف لتصفية القضية الفلسطينية ووجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وكذلك إعلانه الاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ونقل سفارة بلاده إليها، وما تبعه ذلك من مسلسل تطبيع عربي معها، بدأته دولة الإمارات وأكملته ثلاث دول عربية أخرى. بل تبيَّن أن كل تلك التطورات أصبحت دافعاً للشعب الفلسطيني، من أجل زيادة تشبّثه بأرضه وتاريخه، وهو ما بدا واضحاً في معركة مقاومة الإخلاء في حي الشيخ جرّاح، وما تبعها من هبّةٍ جماهيريةٍ لأبناء الداخل الفلسطيني والضفة الغربية للدفاع عن القدس، ومساندة تلك الهبّة بضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ من غزّة لتخفيف الحصار عن المقدسيين.
ولا يبدو ما تقدَّم غريباً، إذ تتوفر للشعب الفلسطيني عوامل قوة يستطيع الارتكاز عليها من أجل تفعيل مقاومةٍ بأشكالٍ عدة. كما تبيَّن أن الإمكانية لاندلاع انتفاضة ثالثة متوفّرة، وبرزت في إرادة المقاومة والتضحية التي أظهرها الشبان الفلسطينيون المرابطون في حي الشيخ جرّاح، وأولئك الذين تقاطروا من أراضي 48، للتضامن معهم والصلاة في المسجد الأقصى. ومن تلك العوامل أيضاً، توفُّر القوة العسكرية اللافتة لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والتي استطاعت فرض معادلةٍ لافتةٍ في عملية الصراع، إضافة إلى تشكيلها هاجساً دائماً لدى قادة العدو من احتمال تعاظمها، على الرغم من الحصار المفروض على القطاع من سنة 2006. كما برز عاملٌ جديدٌ ومهم، وهو ظهور أراضي 48 باعتبارها خزاناً مقاوماً ورافضاً، يمكن أن ينفجر في أي وقت في وجه المحتل الذي ظن أنه قد تدجَّن، وأثبتت وقفة باب العامود وحوادث حي الشيخ جرّاح عكس ذلك.
في جهة أخرى، وعلى العكس أيضاً، فالعالم، بشبابه ومسنّيه، لم ينسَ القضية الفلسطينية، إذ يمثل التضامن اللافت مع الشعب الفلسطيني أخيراً، والذي أسّست له حركة المقاطعة الدولية وسحب الاستثمارات عبر حالةٍ وجدانيةٍ تخاطب الضمير الإنساني وذاكرة الشعوب، لإبراز القضية ومنع العالم من نسيانها ونسيان ما اقترفته العصابات الإسرائيلية من جرائم عنصرية وتطهير عرقي لتهجير الشعب الفلسطيني. وجرى خلال حملات التضامن التأكيد على أن عمليات الإخلاء الحالية، وإقامة المستوطنات فوق أراضي الضفة الغربية، ما هما إلا ثمرة عمليات التهجير الأولى التي حدثت بعد النكبة سنة 1948، وخلالها.
انطلاقاً من هذه التطورات، تأكدت أهمية ظهور مشروع سياسي فلسطيني جديد، باستراتيجية تضع مسألة التحرّر الوطني من الاحتلال مرشداً لها. مشروعٌ يخرج من رحم التطورات الجديدة، ويكون بديلاً عن سلطة محمود عباس المهادنة، تحمله قوى وطنية قادرة على رفعه، والاستناد إليه من أجل وقف التراجع الذي شهدته القضية الفلسطينية. ولا يستقيم هذا المشروع إلا بعد وقف التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وتعليق الاتفاقات معهم، من أجل القطع مع ذهنية الضعف والعجز التي أدمنتها سلطة "أوسلو" وروَّجتها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وإذ تجاوبت فلسطين، من النهر إلى البحر، مع الدعوات ونفَّذت إضراباً شاملاً، يوم الثلاثاء 18 مايو/ أيار الجاري، هو الأشمل والأول من نوعه من عقود، فإن ملامح ظهور مشروعٍ كهذا تبدو قائمة.