حين تُمعن فرنسا في معاداة العرب
كتب: المهدي مبروك
حينما اقتسمت القوى العظمى، أواخر القرن التاسع عشر، العالم، كان النصيب الأكبر من مستعمرات فرنسا يقع في العالم العربي وأفريقيا. ذهبت بريطانيا إلى مصر والمشرق العربي والهند وأقاصي آسيا، وذهبت إسبانيا والبرتغال إلى دولٍ مشتتة بين أفريقيا وبعض بلدان أميركا اللاتينية، وذلك لأسباب تاريخية سابقة عن الموجة الاستعمارية المتأخرة. لم تنسَ فرنسا ذلك اللقاء المتوتر الذي جمعها مع العرب، منذ حملة نابليون على مصر.
داوت تلك المستعمرات قدر الإمكان مشاعر الإهانة والإذلال التي لحقتها لاحقاً، بعد موجات التحرّر، خصوصاً وقد أثخنت فرنسا جراحها في جسد تلك المجتمعات، بما ارتكبت من جرائم، ما زالت - على الرغم من ذلك كله - موضوع توتر مع عديد من "مستعمراتها السابقة". تثبت التصريحات الحادّة التي لا يزال صداها يُسمع، بين حين وآخر، متوتّراً بين فرنسا والجزائر مثلاً، أن الأمر أعمق وأعقد مما نتصوّر. شهد هذا البلد مبادرات ثقافية وتاريخية عديدة (كتاب التاريخ المدرسي، الاعتراف بالماضي الاستعماري والاعتذار عنه) قسمت الرأي العام ونخبه السياسية والثقافية إلى مخيمين بدَوَا غير متوازنين في العقود الأخيرة. لقد مالت الكفّة إلى يمين واسع يتمدد، ليضم طيفاً من الأحزاب والمنظمات والشخصيات اليمينية التي تناهض العرب، بشكل خاص، حتى نخال أن فرنسا لا تزال تعيد إنتاج صلفها الاستعماري القديم، ولا تنظر إلى مجتمعاتٍ عديدة إلا على اعتبارها مستعمرات قديمة. وظلت حريصةً على أن تظل هذه الدول تابعةً لها اقتصادياً ولغوياً من خلال إعادة إنتاج هذه التبعية المذلة عبر استزراع نخب ثقافية واقتصادية وسياسية، تشد هذه المجتمعات إلى حلقةٍ محكمة التبعية. يكشف موقفها أخيراً مما حدث في تشاد، ورثاء الديكتاتور إدريس ديبي، عقدةً صلبةً عجزت عن الشفاء منها.
ظلت فرنسا من أكثر من عانوا وما زالوا من شيزوفرينيا مدمية في عقل نخبها، وفي وعي هذه النخب. ففي وقتٍ كانت تتباهى فيه بأنها عاصمة الأنوار والثورة الفرنسية، كانت تنظم، من حين إلى آخر، معارض كونية، أو تشارك فيها، يعرض فيها "بشر" للفرجة، حتى تجسّ جلدتهم وتفرك آذانهم، للتأكُّد من أنهم كائناتٌ لهم أحاسيس ومشاعر، مثل الفرنسيين، والأوروبيين عموماً. ولا أعتقد أن أحداً من أولئك الفرنسيين، وهو يقترب من بشر الأقفاص، كان يتخيّل أن له عقلاً وروحاً إنسانيَّين. ففي وقتٍ كان فيه فلاسفتها وساستها يتحدّثون عن العقلانية والإنسانية والأخوة، كانت أسلحتهم تقصف الرؤوس، وتعلق الجماجم في ما يشبه القلائد، فتعلق وتزيّن بها أقواس النصر على ثكناتها، بل ويذهب بعضهم إلى التسلية بها، كما يفعل بهلواني السيرك أمام قصور أمراء السلطات المحلية وباباتها في دول المغرب العربي، من دون أن نذكر الصيحات التي كان يردّدها جنودهم، كلما مرّوا بقرية أو ولي أو ثكنة للجيوش المخزنية، أنهم جاؤوا للانتقام من فاطمة (بنت الرسول).
ما إن استقلت بعض دول المغرب العربي عن فرنسا (المغرب وتونس)، حتى برهنت فرنسا، مرة أخرى، على معاداتها العرب، وانحازت من دون مبرّر مقنع إلى الكيان الصهيوني في عدوانه الثلاثي على مصر، حين ساهمت بضراوةٍ في شنّ تلك الحرب الظالمة على قلب العالم العربي النابض آنذاك، مصر التحرّر والنضال القومي. كانت مخاوف فرنسا من تأميم قناة السويس والتهديدات التي يمكن أن تكون موجهةً إليها ذريعةً لهذا التحالف الفظيع بينها وبين إسرائيل وبريطانيا. والحقيقة أنها كانت تعاقب جمال عبد الناصر على دعمه السخي الثورة الجزائرية، وقد كانت في أوج عنفوانها آنذاك.
لم يكن هذا السلوك استثناءً، بل ظلت فرنسا تخذل العرب في كل المحطات التاريخية التي وضعت مصالحهم القومية على المحكّ. لذلك ساندت فرنسا بشكل سافر الكيان الإسرائيلي في كل الحروب اللاحقة التي شنّها على العرب: حربا 1967 و1973. وكانت من أهم مسلِّحيه، فضلاً عن المواقف التي اتخذتها فرنسا في مجلس الأمن، وبقية هياكل منظمة الأمم المتحدة.
لا يمكن الاكتفاء بحصر الموقف الفرنسي المناهض للقضايا العربية في مساندته المطلقة واللامشروطة للكيان الصهيوني، وتنكّره للحقوق الفلسطينية، بل ظلت فرنسا تعادي العرب في جل قضاياهم الأخرى. نذكر كيف اصطفّت مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حين استُهدِف العراق في حرب الخليج الأولى في بداية التسعينيات، وشكلت قاعدةً مهمة لأسبابٍ جيوسياسية للاعتداء.
هل ثمة مبالغة في القول إن فرنسا ناهضت العرب، وانحازت إلى الكيان الصهيوني في كل المحطات التي عرفها صراعهم معه؟ لا أعتقد أننا نتجنّى عليها، ولكن علينا ألا ننسى، إنصافاً لبعض قادتها، بعض المواقف النادرة التي جسّدها بعض ساستها في تغريداتٍ خارج السرب إرضاءً للضمير وانحيازاً للقيم الفرنسية ذاتها. ما زالت الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية الفرنسي، دومينيك دوفيلبان، مدوية، وأعلن فيها رفض بلاده المشاركة في الحرب على العراق سنة 2003، ولذلك يحظى الرجل باحترام خاص، وقد جسّد فيها مواقف الزعيم الراحل جاك شيراك من مجمل القضايا العربية.
نتيجة هذا الموقف بالذات، ابتزّت الولايات المتحدة الأميركية فرنسا لاحقاً، حتى أجبرتها على دفع الفاتورة الباهظة، فمع مجيئه سنة 2007 سيزايد الرئيس ساركوزي على ساسة أوروبا كلها، للتقرّب من الولايات المتحدة، والاصطفاف وراءها، وما كان له أن يثبت ذلك إلا بإعلان دفاعه المستميت عن الكيان الإسرائيلي. وفرنسا تصوغ مواقفها وتسوقها بحذاقة، وهي "أكثر دبلوماسية وأقل صدمة" من الولايات المتحدة. ومع ذلك، يتوهم من يعتقد أن مسائل الهجرة واللجوء والأحداث الإرهابية التي جرت أخيراً في فرنسا هي السبب. إنها مجرّد حجج من أجل الهروب إلى الأمام والوصول إلى نقطة اللاعودة. موقفها الصادم والمخيب من العدوان أخيراً على غزة وإدانتها المقاومة، واعتبارها عملاً إرهابياً ترتكبه جماعات فلسطينية، كما ورد في بيان الرئاسة الفرنسية بمناسبة قمة الاستثمار المخصّصة للدول الأفريقية، فضلاً عن محاولة منعها حتى مجرد التظاهر في باريس، لإدانة حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، يُثبت مرة أخرى موقف فرنسا المنحاز، والمناهض للحق العربي.