مبدأ المساواة
رفعتِ الثّورة الفرنسيّة (1789)، في جملة ما رفعتْه من شعارات، شعار المساواة وتفرّدت تجربتُها السّياسيّة بالتّشديد عليه أكثر من غيرها من الثّورات الأوروبيّة التّي أحلّت مبدأ الحريّة محلّ القلب من منظومة شعاراتها؛ كما يمكن لأيّ دارسٍ لتاريخ الثّورات وللفكر السّياسيّ أن يلْحظ ذلك؛ كما في حالة الثّورتيْن الإنجليزيّتيْن الأولى والثّانيّة وفي حالة الثّورة الأميركيّة.
يمكن للباحث أن يلمس بصمات فكر جان جاك روسو في مبادئ الثّورة الفرنسيّة، جملةً، وفي مبدأ المساواة بالذّات، وربّما حتّى أكثر من أثر فكر مونتسكيو فيها. كما يمكنه أن يعثر على بصمات الدّستور الأمريكيّ فيها مع أنّ منهلَه لم يكن روسويّاً (نسبةً إلى روس)، وإنّما هو مَتَح - مثل الثّورة الإنجليزيّة الثّانيّة - من فكر جون لوك وبَنى على أفكاره. ولكنّ إصرار الثّورة الفرنسيّة على مبدأ المساواة أتى يتوّج مساراً من النّضال الفكريّ والفلسفيّ، خاض فيه فلاسفة العقد الاجتماعيّ في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، قبل أن تنتقل حصيلتُه من الحيِّز النّظريّ إلى حيّز السّياسات التي أتتِ الثّورة الفرنسيّة تدشّنها وتُطلقها لتصير سياسات مألوفة للدّولة الوطنيّة الحديثة.
لا يقود الإقرار بالحريّة، كحقٍّ مدنيّ، إلى المساواة حكماً. منبع فكرة الحريّة اقتصاديّ، في المقام الأوّل، كما تُطلعنا على ذلك كتابات جون لوك و، من بعده، آدم سميث. أمّا المساواة فلا تخلو من معنًى اجتماعيّ فَرَضتْهُ في فرنسا الثّورة مشاركةُ جسمٍ اجتماعيّ كبير من حَمَلَة الأفكار الاجتماعيّة الاشتراكيّة الطوبويّة، التي تأثّر بها رجالاتٌ منها كان في جملتهم سان سيمون، وأشاعها، في ما بعد، في تلامذته؛ مثلما عبّر عنه ميْلُ البرجوازيّة الصّاعدة، بنفسِها الثّوريّ، إلى كسب طبقات الشّعب المسحوقة في معركتها ضدّ النّبلاء والمَلكيّة وطبقة الإقطاع، حتّى وإن هي قزّمت معنى المساواة وحدودها، في التّطبيق، إلى حيث تقتصر على جانب الحقوق السّياسيّة.
لم يكن مبدأ المساواة ليتبلور في الفكر السّياسيّ الحديث إلاّ في ضوء رسوخ مبادئ أخرى يرتبط بها، كمقدّماتٍ له، وقد تقود إليه مثلما قادت إليه، فعلاً، في الحالة الفرنسيّة. ولعلّ مبادئ/ مفاهيم ثلاثة كانت أظهر المبادئ والمفاهيم التي مهّدت لميلاد شعار المساواة والتّشديد عليه؛ وهي: الحقّ المدنيّ، والقانون، والمُواطَنة.
لفلسفة السّياسة الحديثة تراثٌ غنيّ في بيان مكانة الحقوق المدنيّة وأدوارها في قيام الدّولة الحديثة وانتظام وظائفها. الحقوق المدنيّة، في مَنشئِها، حقوق طبيعيّة على نحو ما شدَّد على ذلك فلاسفة العقد الاجتماعيّ. ولكنّها تتميّز من هذه الأخيرة في أنّ الدّولة تضمنها فيما الحقوق الطبيعيّة غير مضمونة في أوضاع ما قبل الدولة (حالة الطبيعة كما يدعوها هوبس ولوك وسپينوزا). والحقوق هذه ممّا لا تقوم الدّولة إلاّ من طريق التّسليم بها لرعاياها نظيرَ تسليم هؤلاء بواجباتهم تجاه الدّولة. والاعترافُ بتلك الحقوق المدنيّة ورعايتُها وصوْنُها جزءٌ لا يتجزّأ من وظائف الدّولة ووَلايتها على رعاياها لأنّ مجرّد الانتماء إلى الدّولة يُوجِبُها على هذه الأخيرة ما دام مبْنَاها على عقدٍ اجتماعيّ.
ولقد فتحت فكرةُ الحقّ المدنيّ وتسليمُ الدّولة به الباب أمام التّبلور الحديث لمفهوم المواطنة. لم يكن المفهوم جديداً تماماً، لأنّ جذوره تعود إلى العهد اليوناني. ولكنّ المواطن في جنيف أو باريس أو لندن غير المواطن في أثينا القديمة. المواطن الأثيني هو المشارِك في الشّؤون العامّة؛ الذي لا يَعْمَل أو يكْدَح، بل المتحرِّر من قيْدِ الحاجة والضرورة. لذلك كان المواطنون قلّة، في المجتمع الإغريقيّ، وما كانت النّساء والعَمَلَة والعبيد منهم. أمّا المواطن الحديث فالمنتمي إلى الدّولة أيّاً كان موقعه من الإنتاج وفي الإنتاج. والمواطنون/رعايا الدّولة هُم من يتمتّعون بتلك الحقوق المدنيّة التي يرتّبُها لهم انتماؤهُم إليها.
وإذا كانت الحقوق المدنيّة وكانتِ المواطَنة مشمولةً برعاية الدّولة، فلأنّ القانون يُقرّها ويضمنها. وليس القانون شيئاً غير ما يضعُه الشّعب، عبر ممثّليه، من قواعد عملٍ وأحكام. لذلك عرَّفه روسو بأنّه تعبيرٌ عن الإرادة العامّة. وحين يقترن الحقّ المدنيّ وتقترن حقوق المواطَنة بالقانون، فمعنى ذلك أنّ ما يعود إلى المنتمين إلى الدّولة من حقوق ليس وهباً من سلطةٍ مّا، بل مستحقّاتُ انتماءٍ يمنحها الشّعبُ لنفسه من طريق إقرار القانون لها. لذلك عُرِّفتِ الدّولةُ الحديثة بأنّها دولة القانون؛ لأنّ السّلطة العليا فيها تعود إليه، ومنه تُسْتَمَدّ كلُّ مشروعيّة.
من البيّن أنّ الدّعوة إلى المساواة، في الفكر السّياسيّ الحديث، أتت خلاصةً لِما قبلها من مبادئ من حيث التدرُّج التّاريخيّ. لكنّها - وهذا هو الأهمّ - أسبغت عليها مضموناً لم يكن يمكن أن تحمله إلاّ متى أصبحتِ المساواة هي القاعدة التي بمقتضاها تتحقّق الحقوق المدنيّة وحقوق المواطَنة. لا معنًى، إذن، لأيّ تسليمٍ بحقوقٍ مدنيّة للمواطنين إن لم يقترن بالتّسليم بالمساواة بينهم فيها، وبأنّهم سواسيّة أمام القانون.