عن مقاومة محاولات إجهاض الهبّة الفلسطينية
كتب: لميس أندوني
انتصر الشعب الفلسطيني في فصول معركة مستمرة، مفعمة بالأمل، وإن كانت مثخنة بالجراح، ومثقلة بدموع الدم في المآقي الحزينة. انتصر بتحدّي الشعب الفلسطيني، وفي تحدّي الإرهاب الصهيوني، لكنه نصر مطارد بشبح التآمر الرسمي العربي المستسلم وخنوع سلطة فلسطينية ربطت استمرارها بقدرتها على تكبيل المقاومة الفلسطينية. الخطر داهم على الهبّة الفلسطينية بكل مكوناتها، فيما استمرارها هو الأساس والضامن للبناء على زخم وطني وإقليمي وعالمي لا يمكن السماح بتبديده، خصوصا أن الهبّة الشعبية لم تكن ضد الاحتلال فحسب، بل ضد نهج كامل بدأ باتفاقية أوسلو عام 1993، واتخذ منحدرا من تفكيك (وتفتيت) للشعب الفلسطيني وهويته، ونشر ثقافة المهادنة، وكأن الفلسطيني مجرّب على تقديم شهادة حسن سلوك، أملا في دولة ليس أكثر من سراب، ولكنه كان ضروريا للتغطية على الانتقال إلى مراحل متقدّمة في المشروع الصهيوني.
أهم ما غيرته الهبّة الشعبية، وبث رعب الصواريخ التي خرقت حاجز الأمن والأمان عند الإسرائيلي، هو في إعادة الصراع إلى نقطة بدايته، أي بين حركة كولونيالية استيطانية إحلالية والشعب الأصلي الذي يُراد اقتلاعه، سكان الأرض الأصليين والأصيلين الذي رفضوا، وما زالوا يرفضون، سرقة وطنهم وأرضهم وتاريخهم وتراثهم وذاكراتهم، وانفجروا في وجه ذلك كله في هبّة شاملة تهدد مشروعية دولة محتلة، تربط استمرارها بقدرتها على إنهاء السكان الأصليين، تريدهم أن يختفوا أو أن يصمت من بقي منهم، وحصرهم في أقفاص، دليلا على انتصار المستعمر ورقته، فهو اختار أن لا يبيدهم كلهم.
هذا تغييرٌ مزلزلٌ فهو أعاد المعادلة على حقيقتها بين شعبٍ يخوض معركة تحرّر ومستعمر يحاول أن يفرض شرعيته بالقوة والقتل، وتدمير جذوة الأمل بالعيش. ولا تهدّد هذه المعادلة المستعمر وحليفه الأميركي فقط، بل كل نظام عربي اعتمد على توظيف نفسه لخدمة المصالح الأميركية التي لا تسمح لمساس إسرائيل، ولو لغويا، وتطويع المنطقة والعالم العربي لاستسلام كامل لهيمنتها. وقد اعتقدت أميركا أنها على وشك إنهاء مهمتها بنجاح، خصوصا بعد اتفاقيات التطبيع غير المسبوقة مع دول في الخليج، فقد تحقق فيها بعض حلم إسرائيل في تطبيع يتعدّى دول الطوق، بل تريده بداية لإخضاع دول الخليج وثرواتها لخدمة المشروع الصهيوني وسيطرته على المنطقة، ففي المنظور الصهيوني، لا تستطيع إسرائيل الاستمرار من دون خوف من نتائج خطيئتها الأولى وخطاياها المتلاحقة، من دون تدمير الوعي العربي الجمعي واختراق عقول شعوب المنطقة.
في رفضه الاستسلام، معلنا ذلك بقوة أمام العالم الذي يشاهد ملحمةً بطوليةً حقيقيةً على شاشات التلفزات والهواتف المحمولة، يسطرها شابات وشباب وشيوخ وأطفال، وجه الشعب الفلسطيني ضربة لمشروعٍ، بدا وكأنه يكتمل في اتفاقيات تحالفية وخرق ثقافي وبدء قبول نخب مهزومة، ليس فقط في بعض دول الخليج، بل في غيرها، ممن يبرّرون ضعفهم بالتنظير "للواقعية السياسية"، فيما هو، في حقيقته، تنظير للقبول بتجبّر المحتل وبأساطير الجيوش الأميركية، تأمينا لمصالح ذاتية، وخدمة لحكام ومسؤولين، وتسبب بإحراج نظمٍ غيبت القضية الفلسطينية من مصطلحاتها، وأمعنت في ربط اقتصادها بكيانٍ يعتبرها عدوا، على الرغم من كل تنازلاتها، فتحرّكت أميركا لتجدّد وعودا بـ"حل الدولتين" الذي ساهمت في قتله، بل لم تدعمه عمليا، إذ منعت أي خطواتٍ عملية من مجلس الأمن في الأمم المتحدة لوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، بل وايضا إخلاء المستوطنين من هذه الأراضي. وحاولت وتحاول إغلاق السبل أمام المحاولات الفلسطينية في محكمة الجنايات الدولية لعرقلة الاستيطان. وأمدّت إسرائيل بكل التمويل والأسلحة اللازمة لاستكمال التهويد في مدن فلسطين وقراها وسهولها وجبالها ومسح هويتها الفلسطينية، بل أفشلت أميركا، في منتصف التسعينيات، مؤتمرا دولياً كان يسعى إلى تطبيق بنود ميثاق جنيف الرابع الذي يحرم أي قوة محتلة من فرض تغيير سكاني أو ديمغرافي وتقسيم جغرافي، ويجرّم أي اعتداءات على السكان وعلى أملاكهم وأراضيهم وإخضاعها لقوانين الاحتلال.
ليست المشكلة في ما تسوقه أميركا، بل في أن أنظمة عربية، ومنها السلطة الفلسطينية، تعتبر تلك الأوهام قشّة نجاة من ضرورة مواجهتها حقائق جديدة يصنعها الشعب الفلسطيني، تؤيد هذه الحقائق فئات وقوى واسعة في العالم العربي، بل في العالم، فترى شبابا وشابات غربيين يبدعون في سرد الرواية الفلسطينية، وفي تدمير الأكاذيب الصهيونية. كما أن جيلا عربيا جديدا يسخر من أساطير الصهيونية وحجج الأنظمة، مبدعا في إسقاط الأقنعة، لكن أنظمةً ترى مصدر شرعيتها في واشنطن، وترتعب من تحدّي سلطاتها وتذكيرها بأن مصدر شرعيتها في داخل بلادها، وأن أجيالا تتحدّى قمعها وكذبها وسجونها.
لم ترتدع هذه الأنظمة، لأنها تؤمن بانتصار القوة الأميركية، وتخاف إسرائيل، وتخاف أكثر ممن لا يخاف إسرائيل، فالولايات المتحدة ربطت معظم الأنظمة بشروط قبولها، أو باتفاقيات اقتصادية وعسكرية، ومنها معاهدات مع العدو الإسرائيلي، ما جعل النخب الحاكمة، ومن حولها، تخشى أن تسقط، وإنْ تتحدّث بعض هذه النخب المستفيدة بلغةٍ مغايرة في أحاديثها الخاصة، وأحيانا على منصّات التواصل الاجتماعي، وإنها تريد من الشعب الفلسطيني التضحية من أجل خلاصها، لكنها مرتعدة، وأجبن من المشاركة في المعركة، وإعلان موقف ضاغط على حكوماتها وأنظمتها.
الوضع يختلف قليلا في الأردن، فالدولة، ومنها القصر، تتأذّى من السياسات الإسرائيلية التي لم تحترم اتفاقية "سلام" وادي عربة معها، ولا الوصاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، وتخشى من ضم دولة الاحتلال الضفة الغربية وغور الأردن إليها، فيتبخر أي حل سلمي يقبله الفلسطينيون. لكن ذلك لم يؤدّ حتى إلى طرد السفير الإسرائيلي في عمّان، أو سحب سفير الأردن من تل أبيب، على الرغم من إدانة الحكومة، وبلهجة شديدة، عمليات الاقتلاع القسري لسكان حي الشيخ جرّاح، بغرض تهويد القدس وتشريد أهلها. بل اكتفت بالسماح بالمظاهرات، ولم تجرؤ على تجميد اتفاقياتها الاقتصادية مع إسرائيل، وهذا ما أغضب فئات واسعة من الشعب الأردني، فتحولت المظاهرات إلى حركة مقاطعة ودعوة إلى إلغاء الاتفاقيات، وفي مقدمتها اتفاقية الغاز (المسروق من الفلسطينيين)، بل والغاء معاهدة وادي عربة. وتنضم إلى هذه المظاهرات والدعوات يوميا فئاتٌ اجتماعية لم تكن منخرطة من قبل، وتساهم بشكل ناشط و فعال، دفاعا عن سيادة الأردن وحقوق الشعب الفلسطيني.
مع استمرار الهبّة الفلسطينية، ووحدة الشعب الفلسطيني وانخراطه في عملية تغيير جديدة، واستراتيجية تطالب بدولة واحدة على كل أرض فلسطين، حتى لو أن ذلك لن يكون من دون انهيار النظام الصهيوني القائم على الاستعمار والفصل العنصري، فمقاومة الشعب الفلسطيني بوصلة الشعوب العربية، واستنهاضها عامل حاسم في نهوض شعبي عربي، يربط نضاله الاجتماعي الاقتصادي السياسي بمعاداة التطبيع والتبعية. وهذا طريق قد يكون طويلا، ولكن المهم إفشال محاولة إجهاضه بالسماح للأنظمة بالرضوخ مرة أخرى لما تسمى عملية "السلام"، فلا سبيل سوى تسمية الأشياء بأسمائها ومواجهة الطغيان والاستعمار معا.