في السياسة الخارجية للحكومة الليبية
كتب: خيري عمر
تشهد السياسة الخارجية الليبية نشاطاً واسعاً يشمل بلدانا عديدة، فقد تزايدت كثافة النشاط الدبلوماسي لحكومة الوحدة الوطنية، وكذلك الملفات السياسية. وبالنظر إلى ميراث المراحل الانتقالية السابقة، يمكن التساؤل عن فرصة تحويل التحدّيات الداخلية والخارجية لمصلحة الحل السلمي. ومن ثم، تبدو أهمية تناول الترابط ما بين السياسات الداخلية وتساند المواقف الدولية وانعكاسه في تكوين أرضية ملائمة لدعم المرحلة الانتقالية.
في بداية تكوينها، كان إدراك الحكومة الليبية واضحاً أن السياسة الخارجية تواجه نفوذاً خارجياً متنامياً، وذا ظلال سلبية على سيادة الدولة. وأنه في ظل محدودية عدد السكان، تبدو الحاجة لتمتين التماسك الاجتماعي والسياسي لمقابلة هذه التحدّيات، فقد كشفت خطابات رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، وتحركات المجلس الرئاسي، عن إدراك مخاطر فجوة العلاقات الخارجية. ولذلك، انصبّ محتوى التحرّكات الخارجية المتتابعة على تطوير العلاقات الثنائية، وخفض التنافسية الدولية على ليبيا.
ومنذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، قامت ملامح السياسة الخارجية على تبنّي توجهات انفتاحية ومحايدة تجاه البلدان المختلفة، حظيت فيها بلدان الشرق الأوسط بالأولوية، فقد شملت الجولات الأولى مصر ودول الخليج وتركيا، ثم تونس والجزائر، لتغطي مساحةً سياسية شهدت اختلافات بشأن العلاقة مع ليبيا، ما يُعد مؤشّراً على وجود رغبة في الوقوف على مسافة واحدة من الدول الإقليمية، امتدت ملامحه في طرح حزمةٍ متماثلةٍ من المصالح المشتركة في القطاعات الاقتصادية والأمنية.
وعلى المستوى الداخلي، تواجه الحكومة تداعيات خلاف تقليدي بين رئاستي مجلسي النواب والدولة، تظهر آثاره في تباطؤ استكمال شغل المناصب العامة، غير أن المضي في اعتماد الموازنة المالية وتجاوز الخلاف بين المجلسين في المهام المشتركة يعمل على بث الثقة في العملية السياسية، وخصوصاً مع تبنّي مجلس الدولة سياسة انفتاحية، تُدعم المسار الانتخابي، سواء من خلال صياغة قانون الاستفتاء أو تشكيل لجنة لاختيار موظفي المناصب العليا.
في هذه الأجواء، يحاول اللواء المتمرّد خليفة حفتر الحفاظ على فاعليته، عسكرياً أو سياسياً، في المشهد الجديد، ارتكازاً على تراكمات الفترة السابقة من النفوذ والقوة. ويمكن النظر إلى ظهوره في احتفالية استعراضية، في الذكرى السابعة لعملية كرامة ليبيا، نوعاً من صناعة الصورة لمزاحمة المشهد السياسي واختبار تماسك الحكومة. وقد تضمّنت كلمته محتوى وصائياً على على السلطة السياسية، ويحثها على تَحمل أعباء الحرب ورعاية المتضررين منها. وكانت لافتةً إشارته لعملية جمع السلاح وإدماج المسلحين في مؤسسات الدولة، وبغض النظر عن المحتوى الصراعي في الخطاب، ساهمت مشاركة مسؤولين حكوميين في الاحتفال في تفويت الفرصة على انبعاث عوامل الانقسام.
وعلى المستوى الإقليمي، شكلت التوجهات الانفتاحية للحكومة الليبية أرضية لأن تكون ليبيا محط استقبال وفود متتالية، اتسمت سياقاتها بالرغبة في البناء على المصالح المشتركة، فقد تتابعت وفود من مصر تركيا وتونس وقطر على ليبيا خلال الشهرين الماضيين، فيما كانت البلدان الأخرى عبر زيارات تقليدية لمسؤولين سياسيين. قد يعكس هذا النمط من تطلع البلدان إلى بناء سياسة شاملة مع ليبيا تقوم على قاعدة التنافسية. وبالنظر إلى اتجاهات المحادثات والاتفاقيات يمكن ملاحظة أنها تقع في نطاق العلاقات الاقتصادية، واعتبار الحكومة الليبية ممثلاً مستقراً للسياسة في ليبيا، كما يمكن النظر إليها محاولة لتقليل الفجوة مع الأطراف الأوروبية والأميركية.
وبمرور الوقت، بدت السياقات الإقليمية أكثر توافقاً مع دعم المرحلة المؤقتة وانعقاد الانتخابات. وتشير خريطة التفاعلات الإقليمية لتوسع نطاق التلاقي بين حكومات اختلفت، سابقاً، حول تقييم الوضع في ليبيا. وذلك على أساس تفضيل الحل السياسي، لم تتوقف هذه التوجهات عند بدء مشاورات مصرية ـ تركية لتطوير المصالح المشتركة ضمن نشاط واسع للعلاقات الإقليمية يشمل قطر والعربية السعودية وتونس والجزائر، تتزايد احتمالات تأثيره إيجابياً على التقارب بين المكونات الليبية وتقليل فرص الانزلاق للصراع واستقرار الاعتراف بالحكومة القائمة ممثلاً وحيداً للدولة.
وبينما اعتمدت بعض البلدان دبلوماسية الوفود والاتفاقيات التجارية والاقتصادية الثنائية، تحاول الولايات المتحدة ودول أوروبية تكوين صيغة تنسيقية مع ليبيا، فقد تلاقت مواقف ألمانيا، فرنسا وإيطاليا، في مارس/ آذار 2021، على تنسيق مواقفها ضمن سياسات الاتحاد الأوروبي، وقد شهدت هذه الصيغة تطويراً يقترب من تكوين كتلة أوروبية ـ أميركية في مواجهة الأطراف الأخرى. وحسب السفارة الأميركية، 28 إبريل/ نيسان 2021، انضمت الولايات المتحدة بجانب بريطانيا لإطار تنسيقي يشمل إيطاليا وفرنسا وألمانيا. وتتعزّز هذه الخطوة بتسمية السفير الأميركي، نور لاند، في 10 مايو/أيار 2021، مبعوثاً خاصاً وبتتابع الوفود الأوروبية على طرابلس. تعمل هذه الشبكة على تطوير أشكال الاتصال السياسي وتوسيع النفوذ المشترك لهذه المجوعة، وخصوصاً مع الصلاحيات المفتوحة للمبعوث الأميركي، ومرافقته المسؤولين الليبيين في الزيارات الخارجية.
على مستوى ملفات السياسة الخارجية، وضعت الحكومة عدة ملفات تمثلت في طلب المساعدة لتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية وبناء مصالح مشتركة في قطاعات النفط والكهرباء، بجانب دعم مسار الانتخابات. غير أنه في ما يتعلق بالشؤون الأمنية والعسكرية، اختلفت المواقف الليبية والدولية، فقد حظيت مشكلة المرتزقة الأجانب بجدل في مستويات مختلفة يعكس مؤشراً على التنافس المزدوج؛ الداخلي والخارجي. فداخلياً، تناولتها الحكومة من وجهة الاختصاص القانوني والسياسي، كمسؤولية سيادية تحدد مشروعية الوجود العسكري وفق اتفاقيات أمنية أو انعدام قانونيته. ويتبنى المجلس الرئاسي معياراً قانونياً يتباعد مع رغبة بعض الدول في إهدار التزامات ليبيا تجاه الدول الأخرى. وعلى خلاف ذلك، يتبنى التعامل الأوروبي والأميركي مطلب الإنهاء الفوري لوجود القوات الأجنبية في ليبيا من دون اعتبار لوضعها القانوني، وهو موقف يرتبط بالتنافسية الدولية. وتُعد إثارة وزارة الخارجية الليبية لهذه المشكلة ملمحاً على ضعف التجانس الداخلي في الحكومة وأكثر تقارباً مع مطالبات إقليمية ودولية بإخلاء ليبيا من المكونات العسكرية الأجنبية، بغض النظر عن وضعها القانوني، وهي مطالب تنصب على إخراج روسيا من المعادلة الليبية والضغط على تركيا، من المتوقع أن يضعها وقف إطلاق النار في نطاق المساومات على النفوذ السياسي.
بشكل عام، يساهم تبنّي حكومة الوحدة الوطنية نمطا مرنا في صياغة السياسة الخارجية وفي احتواء الاختلافات الداخلية، إلى جانب خفض مستوى الصراع الدولي بشأن ليبيا. من هذه الوجهة، يمكن قراءة الحراك الدبلوماسي مؤشراً مهماً على وجود فرصة لتحييد التناقضات الداخلية والخارجية، ولعل وجود حالة الوفرة واستقرار إنتاج النفط يساعد قدرات الحكومة التفاوضية في تحويل الصراع لمصالح دولية تدعم الانتقال السياسي.