باكستان .. هوامش حركة ضيقة
بعد ثلاث سنوات من فوز حزبه "تحريك أنصاف" بثقة الناخبين، فإن رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان (59 عاما)، ما زال يُوصف، على نطاق واسع، بأنه بطل لعبة الكريكيت (رياضة بريطانية). ويعود ذلك موضوعيا إلى الفترة الطويلة التي أمضاها، وهو يمارس من موقع التفوق، هذه اللعبة التي نال عليها عدة جوائز، غير أن ثمّة سببا آخر يفسر التصاق السمعة الرياضية به، وعدم انفكاكها عنه، أنه لم ينجز الكثير في المنصب الأرفع في بلده، باستثناء تمتين العلاقات مع الصين، والامتناع عن إقامة علاقات مع الدولة الصهيونية، بل إنه لم ينجح في إظهار نفسه صاحب رؤية سياسية متماسكة تلهم مناصريه، وتحمل خصومه ومنافسيه على الاعتراف بمواهبه وإنجازاته.. ناهيك بأن يكون صاحب مشروع نهضوي أو تحديثي أو تغييري. وقد نجا، أخيرا، من تصويت على الثقة بحكومته في برلمان بلاده بفارق بضعة أصوات.
وليس خان هو الوحيد بين رؤساء الحكومات الذي لم يترك أثرا كبيرا وملموسا ينقل جمهورية باكستان الإسلامية من حال إلى آخر، إذ ما زال مؤسس الدولة، محمد علي جُناح، هو أبرز الساسة ورجال الدولة في هذا البلد، هذا إلى عدد محدود من هؤلاء، وبالذات ذو الفقار علي بوتو الذي أرسى التصنيع، وحاول المزج بين الاشتراكية والديمقراطية والإسلام، وانتهى حكمه بنهاية مأساوية بتنفيذ حكم الإعدام به في إبريل/ نيسان 1979 على خلفية مزاعم بتصفية أحد المعارضين، وكذلك ابنته بي نظير بوتو، رئيسة الوزراء وزعيمة حزب الشعب، وقد شابت حياتها السياسية شبهات فساد قوية، وقضت اغتيالا في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2007. وغالبية رؤساء الحكومات في هذا البلد لم يمضوا فتراتهم الدستورية كاملة، وبعضهم أحيل إلى المحاكمة، فيما ظل الجيش الباكستاني لاعباً رئيسياً في إدارة دفّة الحكم أو بصورة مباشرة من خلال الانقلابات العسكرية، أو من وراء ستار، وهي تهمة يردّدها خصوم عمران خان (حزب الرابطة الإسلامية خصوصا) بالقول إن الجيش والمخابرات هما اللذان أوصلاه إلى سدّة الحكم، وإنه يحكم متمتعا بدعمهما من دون أن يراكم خبراتٍ تذكر. وإذا كانت هناك من تغييرات على وضع باكستان على المسرحين، الإقليمي والدولي، فذلك يعود إلى حراك اللاعبين الخارجيين الكبار. وعلى سبيل المثال، أصابت التحالف التقليدي بين باكستان وأميركا هزّاتٌ في العقدين الأخيرين على الأقل، نتيجة التحفظات الأميركية على ما تعتبرها واشنطن علاقات ما زالت قائمة بين بعض مسؤولي الحكم، بما في ذلك على المستوى الأمني، مع حركة طالبان الأفغانية (علما أن واشنطن هي التي شجعت على نسج العلاقات بين الطرفين في فترة الجهاد الأفغاني خلال الوجود السوفييتي)، فضلاً عن علاقات قبلية وحزبية. علاوة على الموقف من كشمير، حيث تبدو واشنطن أقرب إلى الموقف الهندي، والحذر الأميركي من امتلاك إسلام آباد منشآت نووية (قامت بأول تفجير عام 1998). والعلاقات القائمة، وإن غير النشطة، بين باكستان وإيران، بما في ذلك خط أنابيب غاز من إيران إلى الهند يمر من باكستان، وتفيد منه هذه الأخيرة، غير أنه وراء هذه الاهتزازات، فإن علاقات الطرفين تواصلت، منذ قيام باكستان في العام 1947، وانضوائها في المعسكر الغربي المناوئ للسوفييت آنذاك. وتسهم الولايات المتحدة في تقديم مساعدات متنوعة لباكستان، وتحتل المركز الثاني كأكبر مورّد للمعدّات العسكرية لها بعد الصين.
والعلاقات مع الصين بدورها تعود إلى مطلع ستينيات القرن الماضي خلال فترة التنافس الصيني السوفييتي، والبحث عن مناطق نفوذ، وكذلك لاتخاذ كل من بكين وإسلام آباد مواقف متحفظة من الهند. وتعتبر باكستان حاليا محطة بارزة من محطات طريق الحرير البرّي والبحري (الحزام والطريق) الصينية. والطريق هذه مشروع عملاق يشمل 66 بلدا، يهدف إلى تسريع وصول المنتجات الصينية إلى دول العالم. وهو ما يفسّر حرص الصين الفائق على الوصول إلى أكبر عدد من المرافئ، إضافة إلى شقّ الطرق، وبناء الجسور، وإنشاء شبكة نقل عام متطورة. وفي باكستان، تم إنشاء طريق برّي يربط بين مدينة كاشغر (في الصين) وميناء كوادر الباكستاني بعد توقيع الصين عقدا لإدارة المرفأ أربعين عاما. وتردّد أن هناك قاعدة عسكرية بحرية للصين أنشئت على المرفأ. وقد وقّعتا على جملة اتفاقاتٍ لتنفيذ مشاريع حيوية، أهمها الموافقة الباكستانية في أغسطس/ آب 2020 على تنفيذ مشروع السكك الحديدية، المعروف باسم الخط الرئيسي الأول، وتبلغ تكلفته مليارات الدولارات. وقد ارتفعت نسبة الأسلحة الصينية في الجيش الباكستاني من 13% إلى 63%، مع تناقص مطّرد في التسليح الأميركي للجيش الباكستاني. وإذا استمر الوضع على هذه الحال، فقد تصبح باكستان حديقة خلفية للجار الصيني.
وفي أغسطس/ آب الماضي، صرّح عمران خان: "نحن محظوظون، لأن لدينا صديقا وقف إلى جانبنا في السرّاء والضرّاء، لم يقف أيٌّ من أصدقائنا الآخرين إلى جانبنا، مثلما دعمتنا الصين سياسيا، ودافعت عنا على جميع الجبهات". علماً أن بكين في سبتمبر/ أيلول 2017 انضمت إلى الهند في التوقيع على إعلان "مكافحة الإرهاب" لقمة البريكس، مع إشارات في الإعلان إلى مجموعات مسلحة مقرّها باكستان، منها "عسكر طيبة".
على المستويين، الإقليمي والإسلامي، اتسمت علاقات إسلام آباد بالتأرجح مع العربية السعودية في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن خان اختار الرياض محطة أولى لجولاته الخارجية، فيما بلغ مجموع زياراته الرياض خمسا، وذلك بعد خلافاتٍ نشأت عن استنكاف باكستان في الانضمام إلى التحالف في حرب اليمن، ولعدم رضا إسلام آباد على الموقف السعودي من تطورات قضية كشمير (إنهاء الحكم شبه الذاتي للإقليم ذي الأغلبية المسلمة). وعلى الرغم من مواظبة خان على التأشير إلى أهمية العلاقات مع الرياض، وإلى حجم العمالة الباكستانية الكبير في السعودية 2,5 مليون عامل، إلا أن هذه العلاقات اتسمت بالفتور، حتى بعد زيارةٍ أدّاها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى إسلام آباد في فبراير/ شباط 2019، وأسفرت عن التوقيع على مشاريع بالمليارات في باكستان. والآن، يجري الحديث عن تنشيط مجلس أعلى للتنسيق بين البلدين لبلورة سياسات مشتركة ومتابعتها وتطويرها. ويُذكر هنا أن إسلام آباد أعلنت، غير مرة، عن استعدادها للعب دور الوسيط بين إيران والسعودية للتقريب بين البلدين. وعلى الأرجح، مهّدت للمفاوضات بين السعودية وإيران التي نشطت أخيرا أطراف إقليمية: العراق وسلطنة عُمان وباكستان، ما يُحسب في عداد الإنجازات المحدودة لعمران خان، في ظل سياسة خارجية باكستانية اتسمت، على مدى عقود وبصفة عامة، بقدر ملحوظ من الاضطراب والاهتزاز، وبما يعكس وضعا داخليا تغيب فيه النخب الحديثة عن الحضور في مراكز القرار، واكتفاء بلد المائتي مليون نسمة بهويته الدينية التي لازمت نشأته عام 1947، بغير فاعلية "حضارية" ومشروع قومي نهضوي، مع أن إسلامية بُلدان، مثل ماليزيا وتركيا، واكبها انطلاق اقتصادي وتجدّد سياسي، وإن ببعض الانتكاسات والإخفاقات.