متى تكون الانتخابات انتخابات؟
كتب: عبد الفتاح ماضي
تُجري دول عربية عديدة انتخاباتٍ بشكل دوري منذ عقود، إلا أنها لا تحظى باهتمام الشعوب، كما أنها لا تغير شيئا من واقعهم المرّ، جديدها أخيرا الانتخابات الرئاسية في سورية. والانتخابات عموما آلية مستخدمة في الغالبية العظمى من نظم الحكم المعاصرة، لكن لها أشكالا مختلفة. والانتخابات التي تطلعت لها شعوب الربيع العربي هي الحقيقية، أي التي تسمى الآن في كتب السياسة "انتخابات ديمقراطية".
لا تعد الانتخابات التي نعرف مسبقا نتائجها ديمقراطية حقيقية. هذا معيار جيد وبسيط، لكن هناك معايير أخرى مهمة أيضا، ويمكن أن تكون ضمن مفردات أي أجندةٍ سياسيةٍ إصلاحيةٍ أو برنامج سياسي. ولهذا من الأهمية التذكير بما كتبته سابقا في الموضوع عن معايير هذه الانتخابات الديمقراطية، والتي يمكن بها التمييز بين هذه الأخيرة والانتخابات الديكورية المسرحية. وتطرح المقالة هنا ثلاثة أسئلة لتبسيط الموضوع.
أولا: هل تعني الانتخابات الإدلاء بالأصوات وعدّها وإعلان نتائجها؟ الإجابة هي لا، فالانتخابات الحقيقية ليست عمليةً بسيطةً، يمكن اختزالها في التصويت وعدّ الأصوات، بل لها متطلبات مسبقة، لابد من توفر الحد الأدنى منها، وهذا ما يسمّى معيار "حرية الانتخابات". وهذه المتطلبات مرتبطة بطبيعة النظام السياسي نفسه، أهمها تنظيم عمل المؤسسات السياسية، على أساس مبدأ حكم القانون، أي تقييد سلطة الحكومة بدستورٍ يخضع له الحكام والمحكومون على قدم المساواة، ويحدّد طريقة صنع القرارات، وآليات المساءلة السياسية للمسؤولين، ويقيم نظاما قضائيا مستقلا لحماية مبدأ حكم القانون وصيانة الحرّيات والحقوق.
هذا إلى جانب تمكين المواطنين من المشاركة في السياسة، وصيانة الحقوق والحريات السياسية، وضمان حق جميع القوى السياسية في التنافس على مقاعد الحكم، وذلك إعمالا لمبدأ أن "الشعب مصدر السلطة"، وأن الحكومة تمارس السلطة، بهدف تحقيق المصلحة العامة للمواطنين، وليس لتحقيق مصالح فئة أو جماعة ما أو حزب معين. وهناك أيضا رابطة المواطنة، أي تمتّع فئات المجتمع بالحقوق والواجبات على قدم المساواة، وتساوي فرص المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية أمام جميع المواطنين من دون تمييز على أساس الأصل أو اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية. وأخيرا، هناك احترام مبدأ التنافسية، أي وجود تنافس حقيقي بين مرشحين متعدّدين أو برامج مختلفة، ويتضمّن هذا المعيار بعدا كمّيا (عدم اقتصار الانتخابات على مرشح واحد فقط كما كانت الحال في نظم الحزب الواحد)، وبعدا كيفيا (ضرورة توفر اختيارات وبرامج متعدّدة ومختلفة).
ثانيا: هل يمكن أن تنفرد السلطة التنفيذية بإدارة الانتخابات؟ لا، إذ هناك معيار يسمّى "نزاهة الانتخابات"، أي أن الانتخابات الديمقراطية لا تتم إلا في ظل حياد الجهة المشرفة على الانتخابات في تعاملها مع كل أطراف العملية الانتخابية من مرشحين وناخبين ومشرفين ومراقبين، وفي جميع مراحلها، بدءا من تسجيل الناخبين وضمان حق الاقتراع العام، مرورا بكيفية تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية (عن طريق تبنّي قانون انتخابي عادل وفعال)، وانتهاءً بكل ما يتصل بالإشراف على الانتخابات وفرز الأصوات وإعلان النتائج ومتابعة الطعون. وتعني نزاهة الانتخابات مبدأ الدورية والانتظام في عقدها، أي تطبيق القواعد الانتخابية نفسها، والمحدّدة مسبقا، على جميع الناخبين والمرشحين بشكل دوري وغير متحيز لفئة معينة. وتستند مسألة الدورية إلى أمرين أساسيين: أن تقلد المناصب السياسية يُحدّد زمنيا بفترات محدّدة، وأن مراقبة الحكام تقتضي الاحتكام إلى الناخبين بشكل دوري ومنتظم، لمعرفة آرائهم في شأن السياسيين المنتخبين وسياساتهم المختلفة.
وتتسم الانتخابات بمجموعة أخرى من المعايير لضمان نزاهتها، مثل ضمان سرّية الاقتراع، وحق المتنافسين في الإشراف على الانتخابات من خلال مندوبيهم، وحماية الدوائر الانتخابية من أي تدخلٍ بغرض التأثير على الناخبين لصالح مرشّح معين، وتأمين الدوائر الانتخابية ضد أي عنفٍ قد يستهدف تخريب الانتخابات أو تعطيلها، وشفافية عملية فرز الأصوات وإظهار النتائج وإعلانها، وإعطاء مهلة مناسبة لتلقي الشكاوى والطعون، الأمر الذي غالبا ما تقوم به اللجنة المشرفة على الانتخابات أو المحاكم.
ثالثا: هل الانتخابات غاية في حد ذاتها أم وسيلة لغايات أخرى؟ الإجابة أن الانتخابات ليست غاية، وإنما أداة لتحقيق وظائف أو مقاصد معينة، وهذا يسمّى معيار "فاعلية الانتخابات"، وأهم هذه الوظائف أنها تعبّر عن مبدأ "الشعب مصدر السلطات"، وهذا يعني أن الحكم يستند إلى عنصر التفويض الشعبي، فهو ليس حقا إلهيا كما في النظم الثيوقراطية، ولا يتم من خلال القهر والغلبة كما في النظم العسكرية والبوليسية. ويعني أيضا حق الشعوب في تقرير مصائرها وتحديد من يحكمها عبر آلية الانتخاب، من دون تأثير مباشر أو غير مباشر من الداخل أو الخارج.
وللانتخابات وظيفة ثانية، هي التداول السلمي على السلطة، وتغيير مركز القوة وإمكانية تقلد المعارضة الحكم بدلا من الحكومة القائمة، وهذا يعني إدارة الصراعات السياسية وحسم التنافس بين السياسيين بطرقٍ غير عنيفة، أو انتقال الصراع السياسي من الشارع إلى صناديق الاقتراع، والتخلي عن الطرق العنيفة، كالانقلابات العسكرية أو الثورة المسلحة.
وللانتخابات وظيفة ثالثة هي توفير شرعية شعبية للحكومة المنتخبة حديثا، أو تجديد شرعية الحكومة القائمة التي قد تحتاج، مع مرور الوقت، إلى تجديد شرعيتها. وللانتخابات مقصد رابع، محاسبة الحكام ومساءلتهم في وقت انتظامها وإجرائها، إنْ من خلال تقويم برامج المتنافسين قبل الانتخابات أو عن طريق مكافأة السياسيين أو معاقبتهم (عن طريق التصويت) إذا ما أرادوا الترشّح للمرة الثانية. وتقوم الانتخابات الديمقراطية بأدوار تعبوية وتثقيفية، من خلال إعداد المرشحين وتدريبهم وتأهيلهم للمناصب السياسية، وهذا يسهم في تجديد حيوية المجتمع، ويضمن مشاركة عناصر جديدة في وضع السياسات، ويدفع الشعب إلى الاهتمام بالسياسة.
ومجمل القول، الانتخابات الحقيقية حرّة ونزيهة وفعالة، وهي ليست مجرّد عملية لإضفاء الشرعية على الحكام، أو لإسكات أصوات المنتقدين من الخارج، وليست طريقا لتنافس الوصوليين وطالبي الشهرة على مقاعد البرلمان، وليست آليةً لمكافأة الموالين والأنصار، أو لاختيار نواب من أجل تقديم الخدمات للجماهير لمعالجة تقصير مؤسسات الدولة. والانتخابات لا تعني أيضا مجرد تطبيق النصوص التي يُقرّها القانون، أي قانون، فالعبرة ليست بالنصوص أو حتى بالنيات، وإنما بالتطبيق الفعلي لتلك النصوص، وبإنجاز الوظائف الفعلية للانتخابات، وبتوفر معايير الحرية والنزاهة.
الانتخابات هي المقوّم الأخير للديمقراطية وليس الأول، بمعنى أن أمورا أخرى يجب أن تُنجز (أو نناضل من أجل إنجازها) قبل إجراء الانتخابات، كالسلم الأهلي، والمصالحات السياسية والمجتمعية، ووضع الأطر الدستورية والقانونية أو تعديلها، وإطلاق الحريات العامة والتعدّدية السياسية وبناء الأحزاب السياسية وغير ذلك.