في انسحاب أميركا من الشرق الأوسط
كتب: سامر خير أحمد
خلطت الحرب الإسرائيلية أخيراً على غزة الأوراق الأميركية المتعلقة بترك منطقة الشرق الأوسط، وخفض اهتمامها السياسي بها إلى جانب سحب قواتها العسكرية منها، لصالح التركيز على منطقة المحيط الهادئ، استعداداً لمستقبل ساخن في مواجهة القوة الصينية الصاعدة في تلك المنطقة من العالم. فقد أظهرت الحرب، أكثر من أي وقت مضى، أن إيران ستكون القوة المرشحة لملء الفراغ الأميركي، بفضل تمدّدها إلى كل البؤر الساخنة المحيطة بحلفائها التقليديين في المنطقة، وتحوّلها من خلال علاقتها غير المعلنة مع المقاومة في غزة، إلى قوة ضغط عسكرية على إسرائيل، التي ما زالت الولايات المتحدة تعتبر صلتها بها مصلحة وطنية استراتيجية. وهذا يعني أنه لن يكون مجدياً للولايات المتحدة الاكتفاء بالدعم العسكري لإسرائيل، كما يقول أنصار انسحابها من الشرق الأوسط، إذ لا بد من مواصلة الاهتمام السياسي، والوجود الميداني، مع تبدّل موازين القوى في المنطقة، حتى وإن كان تبدّلاً طفيفاً.
ثم إن التحالف الإيراني الصيني الذي أُعلن عنه في الأسابيع الماضية، عبر توقيع اتفاقية تعاون اقتصادي وسياسي مدّتها 25 عاماً، وكلفتها المالية 400 مليار دولار، يعني أن خروج الولايات المتحدة من المنطقة لمواجهة الصين في شرق آسيا سيتيح للصين أن تتدخل في الشرق الأوسط، ما يشكل ضغطاً على الولايات المتحدة وحلفائها يخلخل الخطط الأميركية، هذا فضلاً عن أنه سيضعف حلفاءها الأوروبيين في مواجهة روسيا المتمركزة على ضفاف المتوسط، في وقتٍ يسعى الرئيس بايدن إلى ترميم الشقوق التي أحدثتها سياسة سلفه ترامب في علاقات بلاده مع أوروبا.
إسرائيل، التي تخشى ذلك الانسحاب الأميركي المتوقع، لا بد أن توظف حربها مع حركة حماس لإقناع الإدارة الأميركية بالبقاء في المنطقة، وقد فعل نتنياهو ذلك فعلاً، حين حذّر الأميركيين من ترك المنطقة لـ"الإرهاب"، وجاء على أن الدول العربية اكتشفت، أخيراً، أن إسرائيل صديقة لها لا عدوة، وهذا يعني، من وجهة نظره، أن "أجواء السلام" المستجدّة هذه تستحق الدعم الأميركي في مواجهة تزايد النفوذ الإيراني.
في الولايات المتحدة، كان دعاة الانسحاب من الشرق الأوسط يروّجون فكرتهم بالقول إن الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط تراجعت كثيراً بالنسبة لبلادهم، فمعظم الطاقة التي تستهلكها أميركا اليوم ليس مصدرها نفط الشرق الأوسط. أما إسرائيل فقد باتت قادرةً بما يكفي على الدفاع عن نفسها، وتبدو محاولة إقامة السلام بينها وبين الفلسطينيين عبثاً لا طائل من ورائه، فما الداعي للوجود المكلف مالياً في تلك المنطقة من العالم؟ وسيكون منطقياً أن يكتشف هؤلاء، بعد الحرب أخيراً على غزة، أن المصالح الاستراتيجية لا تُقاس بهذه الموازين، فخروج الولايات المتحدة يعني دخول إيران والصين وروسيا، وتهديد أوروبا، ما يعني خسارات مضاعفة ومكلفة لنفوذ الولايات المتحدة.
صحيح أن الرئيس الأميركي بايدن افتتح عهده بتعيينات مكثفة في المناصب المعنية بشرق آسيا والصين، وبدت إدارته، حتى ما قبل الحرب على غزة، الأقل اهتماماً، مقارنة بالإدارات الأميركية السابقة بالتواصل مع الدول شرق الأوسطية، بما في ذلك إسرائيل، إذ جرى أول اتصال هاتفي بين نتنياهو وبايدن بعد نحو شهر من تولي الأخير منصبه، إلا أن الدبلوماسية الأميركية وجدت نفسها متورّطة فجأة بالأحداث المتسارعة التي تلت تهديد الفلسطينيين بالتهجير من حي الشيخ جرّاح في القدس، وهو الحال نفسه الذي خبره بايدن جيداً حين كان نائباً للرئيس باراك أوباما، وعجزت إدارته عن الخروج من الشرق الأوسط وسط اندلاع ثورات الربيع العربي، وبروز حركات العنف التي تنسب نفسها للإسلام، إذ لا بد أن يكتشف بايدن، هذه المرة أيضاً، أن ما لم تفعله بلاده يوم كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم، المتحكمة بالسياسة والاقتصاد، لا يمكنها أن تفعله الآن، وقد باتت مسألة تعدّد الأقطاب العالمية على أعتاب التحقق.
بالنسبة للصين، من الطبيعي أن يُثير تركيز الولايات المتحدة على شرق آسيا مخاوفها. صحيح أن الصين يمكن أن تستفيد من خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، عبر تمدّد نفوذ حلفائها، لكنها ستكون أكثر سعادة لو ظلت الولايات المتحدة غارقة في وحل الشرق الأوسط، وبعيدة عن تهديد نفوذها السياسي والعسكري في شرق آسيا، وطموحها المستمر إلى توسيعه. تدرك الصين أن علاقاتها مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، بمن فيهم إسرائيل والدول العربية، لا يمكن أن ترتقي إلى صفة العلاقات الاستراتيجية التي تكون عنصراً مؤثراً في التنافس الأميركي الصيني، على الرغم من توسّعها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة مع السعودية والإمارات مثلاً، إذ ما تزال هذه العلاقات وستبقى متركزة في الجوانب التجارية والاقتصادية، دون السياسية، ولا يمكن للصين أن تسعى إلى ملء الفراغ الأميركي بنفسها.
من أجل مزيد من الموضوعية، لا تسعى الصين، في الأصل، إلى استعداء الولايات المتحدة، وتفضل لو أتيح لها أن تواصل نموها الاقتصادي بعيداً عن العداء الأميركي كما ظلت تفعل على مدار العقود الأربعة الماضية، فضلاً عن تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في آسيا وأفريقيا من دون أن تظهر بصورة العدو للولايات المتحدة. لكن هذا الحال يبدو متعذّراً منذ باتت الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم قبل نحو عقد، وهذا يعني أنها مضطرّة لخوض هذه الحرب الباردة: إلهاء أميركا عن شرق آسيا، وجرّها من جديد إلى الشرق الأوسط!