في إعلان الحرب على الصين
تصريحٌ لافتٌ، لكنه غير موضوعي، ما صدر عن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، بقوله: "نحن لا ندخل حرباً باردة جديدة، والصين ليست خصمنا وليست عدونا"، وذلك عقب صدور البيان الختامي لقمة الحلف التي انعقدت منتصف شهر يونيو/ حزيران الجاري في بروكسل، وفيه: "إن طموحات الصين وتصرّفاتها، بما في ذلك توسيع ترسانتها النووية، تهدّد أسس قواعد النظام الدولي والمجالات ذات الصلة بأمن الحلف". أما عدم الموضوعية في التصريح، فلأن بيان الحلف يمثل فعلاً إعلان حرب باردة جديدة على الصين، وهو الأمر الذي كان منتظراً بالنظر إلى نيات إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي ركزت جهدها منذ تولي سدة الرئاسة في يناير/ كانون الثاني على أمرين: إعادة تنظيم صفوف حلفاء الولايات المتحدة لمواجهة الصين، بعد الفوضى التي أصابت تلك التحالفات، نتيجة سنوات حكم ترامب، وهو الأمر الذي تندرج فيه أيضاً قمة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي انعقدت بعد يوم من قمة "الناتو". إعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة في بؤر العالم الساخنة، بحيث ترمي بثقلها لمواجهة الصين.
لا تتعلق عملية "تنظيم الصفوف ضد الصين" التي تقودها الولايات المتحدة بعلاقاتها الدولية وحسب، بل بشؤونها الداخلية أيضاً، إذ على الرغم من الخلافات غير المسبوقة الحاصلة حالياً بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على خلفية الانتخابات الرئاسية، بدا لافتاً أن الحزبين يتفقان على أدق التفاصيل، حين يتعلق الأمر بمواجهة الصين، وأبرز مؤشّر على ذلك الإجماع الذي حظي به تعيين كاثرين تاي، الخبيرة في مسائل التنافس التجاري بين الولايات المتحدة والصين، في منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة، من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديمقراطيين في مارس/ آذار الفائت، إذ حصل تعيين تاي، الأميركية من أصول صينية، على موافقة 98 عضواً في مقابل عدم وجود أي صوتٍ رافض، وهو أمر نادر الحدوث.
وعلى الرغم من أن بيان حلف الناتو، ونتائج التنسيق الأميركي ــ الأوروبي، لم ينتج منها إلا حديث في العموميات والأطر العامة حيال الصين، إلا أنه يمكن القول إن التحرّك الدولي الواسع الذي تقوده الولايات المتحدة لجعل الصين خصماً موحداً للنظام العالمي القائم، سيعتمد في الفترة المقبلة خطاباً عدائياً يتضمن المحاور الآتية:
أولاً، إن الصين تسعى إلى مراجعة النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة الأميركية السوفييتية قبل 30 سنة، بحيث يصبح هذا النظام أكثر ملاءمةً لمصالحها، وأن تعترف دول العالم بالمكانة الجديدة التي تشغلها الصين بعد نجاحاتها الاقتصادية الهائلة.
ثانياً، إن الصين باتت أكثر عدائية في تحقيق مصالحها الدولية منذ اتباع مبادرة "الطريق والحزام" التي أطلقتها عام 2013، من خلال السعي إلى تقييد قدرة الدول المصدّرة على الوصول إلى الأسواق الدولية التي تسيطر عليها، في مقابل تمكّن الصين من الوصول بحريّة إلى مختلف الأسواق العالمية، عبر إبرام اتفاقياتٍ نوعية من خلال مبادرة الطريق والحزام، تمنحها السيطرة على الموانئ ومعابر التجارة الدولية.
ثالثاً، إن الصين تؤسّس منظمات دولية جديدة تستثني من عضويتها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، وتوسع حضورها في أفريقيا، عسكرياً واقتصادياً وتقنياً. وهذا يعني أنها تعمل على تعزيز نفوذها بين دول العالم النامية.
رابعاً، تعزيز القلق من ارتفاع اعتمادية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الواردات الصينية، خصوصاً في مجال الخدمات الأساسية.
خامساً، اعتبار أن الصين تشكل خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها في مجال التكنولوجيا.
سادساً، يضاف إلى ذلك كله الخطاب التقليدي الذي يركّز على معاداة الصين للديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات الصينية، وأنها تشكل خطراً على جيرانها، خصوصاً في بحر الصين الجنوبي.
وإذا كان هذا الخطاب يعتمد فكرة إثارة مخاوف العالم من الصعود الصيني، فمن المؤكّد أن الأمور في السياسة الدولية لا تتم بهذه الطريقة وحسب، وثمّة دائماً حاجة لربط المواقف السياسية للدول بمصالحها المباشرة وغير المباشرة، كي تقبل الانضمام إلى توافق دولي يواجه الصين. لذلك، لن تكون معرفة النيات الأميركية في شأن الخطوات العملية المقبلة ضد الصين واضحة من خلال التصرفات والتصريحات الأميركية بالدرجة الأولى، بل ستكون أكثر وضوحاً من خلال ردود أفعال دول العالم تجاه الصين، ومدى تقاربها مع الولايات المتحدة، وهذا ينطبق على الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في أوروبا، وكذلك ينطبق على حكومات الدول التي تدور في فلك الولايات المتحدة.
ولكن من الممكن القول إن درجة العدائية التي سينتهجها أي تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة ضد الصين، يمكن تحديدها في ضوء الموضوع الرئيسي الذي سيُستعمَل ضدها: لأن إبقاء التركيز على المسائل التجارية يعني أن السلوك ضد الصين سينتهج طريقة "الحرب التجارية الباردة"، بينما سيوظف قضايا الأقليات وحقوق الإنسان لخدمة الأهداف التجارية الأميركية والأوروبية، أي إن "التحالف الدولي" لن يكون جادّاً في استعمال قضايا قومية الإيغور وهونغ كونغ، اللتين جرى التركيز عليهما إعلامياً بشكل واسع، استعمالاً حقيقياً ضد الصين. وهذا يفتح المجال لمناورة أوسع من الصين.
أما في حال استعمال قضايا الديمقراطية والأقليات وحقوق الإنسان استعمالاً حقيقياً، أي من أجل حشد الرأي العام العالمي ضد الصين، فإنه يعني أن الأمر سيكون أكثر عدائيةً، وقد يصل إلى إزعاج الصين من خلال حرب عصاباتٍ على حدودها الشمالية الغربية. وهنا تحديداً يمكن مراقبة سلوك حكومات الدول العربية والإسلامية، لأن استعمال قضية قومية الإيغور مثلاً، سيرتكز على أنها قومية مسلمة. ومؤكّد أن الولايات المتحدة لا يمكنها استعمال هذه القضية من دون مساندة حلفائها العرب والمسلمين.