ملفّات التاريخ في الجزائر .. متاهات للسياسة
كتب: محمد سي بشير
عندما تغيب الموضوعية وتختفي السياسة، تبرز، إلى الأفق، أضحوكات المتاهات وأغلوطات المهالك، ولعل هذه العبارات التي يمكن أن توصف بها خرجات (إطلالات) بعضهم، ممن نصّبوا أنفسهم مؤرّخين، لينالوا من رموز الأمة بالتّخوين والتّحجيم، بل والتغييب الكامل، وهم من يستحقّ ذلك، أي المدّعون، في حجمهم ودرجة علمهم، كما ستبيّن المقالة.
طلع علينا، أحدهم، وهو نجل رمز من رموز الثّورة التحريرية الجزائرية الكبرى، العقيد عميروش، رحمه الله، ليطرح علينا قراءة جديدة للتّاريخ، بل مراجعة سيّئة له، في نسخته التي يتبنّاها، من دون علم ومن دون أن يكون له باع في الدراسات التاريخية، أو يبرز، على أقل تقدير، إثباتات، اتّهم فيها الأمير عبد القادر الجزائري، مؤسّس الدولة الجزائريّة الحديثة، بأنّه، وعائلته، من الخونة، ثم عرج على أحداث تاريخية، بعينها، وشخصيات وطنية، لينال منها، أيضا، من دون أن يكون ذلك في إطار نقاشٍ أو حصّة يحاور فيها صحافي محترف وصاحب باع في إدارة المقابلات التلفزيونية، بالرّأي والرأي الآخر، والأسئلة المحرجة أو المبينة لعوار أطروحات الضيف، لتكون النتيجة ترّهات، أضحوكات وأغلوطات، بعضها أكبر من بعض.
الإشكالية التي تطرحها الحصة (الحلقة) التّلفزيونية المشار إليها، بداية، هي التردّي الذي تواصل القنوات في تقديمه على أنه عمل إعلامي، في حين أن مضمونه لا يمكن أن يرتقي إلى حمل عنوان الشريط الوثائقي، أو الحديث الصّحافي الرّصين، حيث يكفي أن نقارن بين ما تقوم بعض القنوات بتقديمه من التّوثيق، التّصوير، العرض للآراء من المختصين، ثم لغة العرض، شكل التقديم والإثباتات التي يرتكز عليها العمل، إضافة إلى الاحترافية في شكل الأسئلة ومضمونها، التي يطرحها صحافي محترف، هدفه إعلامي وتثقيفي، بينما ما عرضته تلك القناة بعيد كلّ البعد عن ذلك كلّه، ما يجعل من الحصة، برمّتها، دعايةً إلهائية، لكن مع مساس برموز مقدسّة في مسار السّردية التاريخية الجزائرية، لأنها سردية متصلة بتأسيس الدّولة الجزائرية الحديثة، وكأنها محاولة للنّيل من تاريخ بلاد بأكملها، وترديد ما كانت فرنسا تذكره في سرديتها الاستيطانية، أنها جاءت إلى الجزائر لتعمّرها، كونها بلاد شاسعة، من دون سكّان، لسكّان (معمّرون أوروبيون) بدون أرض، وهو منطق كلّ المغامرات الاستيطانية، عبر العالم.
بالنّسبة لصاحب الترّهات، نور الدين آيت حمودة، فإنّه معروف بخرجاته المزاجية لكنه، هذه المرّة، تفوّق على نفسه، وادّعى أنه يملك معلومات عن خيانة الأمير عبد القادر الجزائري بلاده، اعتمادا على قصاصاتٍ من جرائد (صحف) فرنسية، كان يحتفظ بها منذ صغره، كما أنه واصل في تلك الأغلوطات، ليصل إلى شخصياتٍ وطنيةٍ، لا ينبغي المساس بها، لكونها رموزا لها حرمتها وقداستها، في إطار منظومة ثوابت، طالب مؤرّخون أجلاء، مرارا، برداء احترام لها تقوم الدولة بدسترة (تضمين الدُّستور الحديث عنها في إطار ثوابت مقدّسة، هي: الحدود، العلم، النّشيد الوطني، الشُّهداء، الثّورة التّحريرية الكبرى، الاستيطان الفرنسـي وتجريمه، المجاهدون، الزُّعماء التّاريخيون)، حتى لا يتعرّض لها أحد بالنّقد، وحتى لا تتربّى الأجيال الشّابة على إمكانية/ جواز التّشكيك في تلك الرُّموز بترّهات من أمثال التي أقدم على إخراجها هذا الدّعي، على أنّها معلومات تاريخية.
لن تتعرّض المقالة هنا للمعلومات التاريخية عن الأمير، ولا عن دوره ودور عائلته في النضال ضد فرنسا. ويكفي، فقط، القول إنّه تعرّض لخياناتٍ كثيرة، وتعامل مع توازناتٍ فاقت قدراته، فاستسلم بعد قرابة 18 عاما من الجهاد، ويكفي الأمير فخرا أنّه من أسّس للدّولة الجزائرية الحديثة، معترضا، في آن، على بقايا العثمانيين، ثم الجيش الفرنسي الجرار، إضافة إلى تجوال عبر أراضي البلاد، لتجنيد القبائل ضدّ فرنسا، حيث قوبل بالتّرحاب الذي يليق بمقامه، ويمكن اعتباره علامة على الولاء، لأوّل مرة، من الجزائريين لسلطةٍ مركزية من صلب الأرض الجزائرية، من دون تفرقة بينهم، لأنّ فرنسا دخلت البلاد بعقليّة السّيطرة على أرضٍ رسمت لها حدودا كانت، في مخيال الأمير ومن كان معه، مؤشّرا بيّنا على ميلاد دولة قومية حديثة، حيث ركّز المؤرّخون على تنظيمه للجيش، بل ووضعه، أيضا، أسس إدارة وصناعة عسكرية، وإنْ في صورها البدائية، لكن، بهذا كله، يكون عمله قد تعدّى مجرّد الصُّمود أمام فرنسا إلى إرساء أسس دولة جزائرية حديثة، انبعثت في 1962، غداة الاستقلال.
والغريب أنّ والد المدّعي، العقيد عميروش، رحمه الله، كان من قيادات الثورة التّحريرية الكبرى (1954 - 1962)، ولم يدر في خلده، البتة، إلا أنه يواصل مسار الجهاد ضدّ فرنسا على خطى الأمير وسلسلة المقاومين الذين لم يتوقّفوا، مند وطئت أقدام الجيوش الفرنسية، الأرض الجزائرية عن النّضال لتحرير الأرض، كل الأرض، معتبرين أنّ الأمير رسم الخط الأول، وهم جزء من تفكيره، رحمه الله، في التأسيس للدولة الجزائرية الحديثة، بمقوماتها السكانية، العرقية المتنوّعة، وبجغرافيتها الحالية، من الجهات الأربع للحدود.
وعلى الرّغم من الوقت الذي استغرقته الحصّة، لم يدُر في فكر المحاور أن يردّ، باحترافية، ولو من وجهة النظر المنطقية على الحجج الخاطئة والمعلومات المختلقة عن رموز البلاد، لأنّ المدّعي لم يتوقّف عند الأمير، بل واصل في التوزيع للخيانة، وفق هواه، ليصل إلى رمز آخر، هو المرحوم مصالي الحاج، مؤسّس النّضال السياسي الجزائري الحديث، على الرغم من الخلافات التي كانت له مع الثّورة التّحريرية الكبرى وقياداتها، لكن ذلك لم يقدح، قط، في وطنيته، أو في رمزية الدّور الذي أدّاه أمام فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1918) إلى غاية استقلال البلاد.
ربّ ضارّة نافعة، كما يُقال، ولعلّ ما قام به هذا المدّعي يكون باعثا على إنتاج أكاديميين ومتخصصين عملا تاريخيا موثّقا، للتّركيز على ارتباط العمل النّضالي الذي قام به الأمير بتأسيس الدّولة الجزائرية، وإبراز أنّ فكره كان متنورا، بحيث إنه كان على اتصالٍ بما كان يجري في أوروبا من تحديث، صناعة، والولاء لسلطة مركزية، ثم التعريج على شخصية مصالي الحاج وإلقاء الضوء على قيمة ما قام به في الدّفع بالنضال إلى العمل المسلّح، في 1954، حتى مع الحلاف الذي وقع بينه وبين قيادات الثّورة التّحريرية الكبرى، والتّي هي من طبيعة الخلافات بين شخصياتٍ تقود عملا بقيمة تحرير بلد من استيطان دام أكثر من 130 عاما.
يحتاج العمل التوثيقي إلى تقييم لتجربة الرّئيس هواري بومدين في الحكم في الجزائر، مع التّركيز على أنّه شخصية تاريخية، على الرّغم من نقائص بادية على تسييره الشأن العامّ، شأن كلّ الرّؤساء والزُّعماء، باعتبار أنّ ما قام به، من تحويل الجزائر من دولة تسير بمؤسّسات مؤقّتة إلى دولة ذات مؤسّسات ونصوص قانونية، بتحويلها من الشرعية الثّورية إلى الشّرعية الدُّستورية، هو أهمّ مشروع سياسي، إلى جانب تأميم المحروقات وإطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة، على الرّغم من فشل بعضها، نسبيا، وهي طبيعة المشاريع الاقتصادية والسّياسة العامّة، تقييما وتقويما.
بالنّتيجة، وهذا هو مربط الفرس، تكون تلك الترّهات مستهدفة ومخططة للجزائر، من حيث التأسيس (الأمير عبد القادر)، النضال من أجل الاستقلال (مصالي الحاج)، ثم بناء المؤسّسات وتوفير نص دستوري، وضع البلاد على سكّة الحداثة، على الرغم من كل النقائص والانتقادات (بومدين). ولا تحتاج الرُّدود إلى تخصيص حيز كبير، وإنما، بدلا من ذلك، توضيح الخلفيّة التي تقف وراء خرجةٍ ليس من أغراضها إلاّ المساس برموز الجزائر والثّورة، وبشكل البلاد السياسي والهوياتي.
المهم، هنا، من ناحية أخرى، أنّ التردّي الإعلامي متواصل، والمطلوب ضبط إيقاع ما تقوم به، شكلا ومضمونا، من السُّلطة المكلّفة بذلك، سلطة ضبط السمعي والبصري ووصايتها وزارة الاتّصال، حتى تتوقّف مثل هذه السّقطات، لأنّها ليست أغلوطات إلهائية، بقدر ما هي مساسٌ بما هو مقدّس لدى أية أمّة وتاريخها. وبالتالي، فانّ المحاسبة على ما تم تقديمه من أكاذيب واجب قضائي، بداية، ثمّ تشريعي لقانون يجرّم المساس بتلك الرُّموز، مع رفعها إلى مصاف الثّوابت الوطنية في أفق كتابتها في الدستور في شكل مادّة صمّاء، أي غير قابلة للتّعديل.