فتح المعابر الإنسانية ودس السم في العسل
تستضيف مدينة نور سلطان بكازاخستان يومي 7-8 يوليو الجاري الاجتماع الدولي السادس عشر رفيع المستوى لصيغة أستانا بشأن سوريا.
ومن المقرر أن تشارك وفود من الدول الضامنة (روسيا وإيران وتركيا)، وكذلك ممثلون عن الحكومة السورية والمعارضة السورية المسلحة. وكمراقبين سيشارك في الاجتماع أيضاً ممثلو هيئة الأمم المتحدة والأردن ولبنان والعراق، حيث سيناقش المشاركون الوضع في سوريا، والمساعدات الإنسانية الدولية، وآفاق استئناف عمل اللجنة الدستورية السورية في جنيف وإجراءات بناء الثقة، بما في ذلك تبادل الأسرى، والإفراج عن الرهائن.
بهذه المناسبة، وبالتزامن، وكما اعتدنا في كافة اجتماعات أستانا، أو أي من الجهود الدولية الرامية إلى حل الأزمة السورية، بدأت حملة شعواء تتهم روسيا ودمشق بـ "تصعيد عسكري كبير في إدلب"، و"قصف مدفعي" و"قتل الأطفال والمدنيين" وغيرها من الأخبار التي تنطلق فيما يبدو من مركز قيادة واحد، يعطي إشارة البدء، لتخريب أي حوار أو جهود ترمي فعلياً إلى مساعدة الشعب السوري بدلاً من حصاره، وتجويعه، وفرض قوانين على غرار قانون قيصر الخانق وغير الإنساني، ورفض تقديم المساعدات الإنسانية بواسطة المنظمات الدولية عبر دمشق، والاستيلاء غير المشروع على الأصول السورية في المصارف الغربية بطلب من واشنطن، فيما لا يمكن وصفه سوى بعملية نهب.
وكان مشروع قرار غربي جديد، وزعته على أعضاء مجلس الأمن، الجمعة الماضي، النرويج وأيرلندا، يقضي بتمديد عمل ممر باب الهوى على الحدود التركية السورية، وإعادة فتح ممر اليعربية بين العراق وسوريا (الذي أغلق في يناير 2020)، وينص مشروع القرار على استئناف التفويض لمدة عام، بدلاً من 6 أشهر، كما أصرت روسيا عند مناقشة الملف العام الماضي.
من جانبها، أعربت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية، ليندا توماس غرينفيلد، عن عدم ارتياح واشنطن للاقتراح الجديد، بل وأصرّت على ضرورة إعادة فتح معبر ثالث أيضاً، وهو معبر باب السلام على الحدود التركية، والذي توقف عن العمل في يوليو 2020.
يبدو الموقف أمام المجتمع الدولي ملتبساً إلى أقصى الحدود، فالعالم "الحر" و"الإنساني" يدعو إلى فتح المعابر "الإنسانية"، بينما تدعو روسيا ذات "القلب المتحجر" إلى إغلاقها في وجه الشعب السوري الذي يعاني من ظروف لا إنسانية مريعة، ويحتاج إلى قطرة الماء والدواء والغذاء.
لكن أحداً لا يسأل عمّن أغلق صنبور المساعدات الإنسانية، والمصارف الغربية، وأطنان المواد الغذائية والدواء وكافة المستلزمات أمام القنوات السورية الشرعية للحكومة الشرعية في البلاد، والتي تعترف بها هيئة الأمم المتحدة عضواً كامل الأهلية ضمن أعضاء الجمعية العمومية. لا أحد يسأل عمّن موّل ونسّق وهرّب وأدخل ولا زال يزوّد تنظيمات مثل "هيئة تحرير الشام" الذي تشكّل "جبهة النصرة" سابقاً عموده الفقري بالسلاح والذخيرة. ولا أحد يسأل عمّن كان يهّرب ملايين البراميل من حقول النفط السورية إلى السوق السوداء، سرقةً ونهباً من موارد وخيرات الشعب السوري، الذي يتباكون عليه اليوم، وعلى "معابره الإنسانية".
كل تلك الأسئلة لا تهم الشركاء في الغرب، وإنما يهمهم الطعن في شرعية الأسد، وتجاوز مفهوم السيادة ووحدة الأراضي، وكأن سوريا دولة "فاشلة" كما أرادوا لها، أو كأنها دولة "بلا حدود" و"بلا سيادة" كما يتمنون. لكن الوضع الراهن على الأرض يقول غير ذلك، والحديث عن المساعدات الإنسانية لا يجب ولا يمكن أن يتجاوز مفهوم احترام سيادة ووحدة الأراضي السورية، ولن تسمح روسيا بتوفير سابقة من هذا النوع في القانون الدولي.
فقضية المعابر الإنسانية إنما تدخل في صلب مبدأ السيادة، وأي توجّه لفتح معابر جديدة، أو تمديد التفويض الدولي لابد وأن يمرّ بالتنسيق والتفاهم مع الحكومة الشرعية في دمشق، وتلك هي القوانين الدولية التي اتفق المجتمع الدولي، واتفقت جميع البلدان على الالتزام بها.
أما الحديث عن "تعنّت روسي" بهذا الشأن، فليس سوى محاولة لتشويه الواقع، ودس السم في العسل، والانطلاق من مزاعم تنقض أساس القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التي أكدت في أكثر من موضع على أهمية وضرورة احترام السيادة السورية.
لا أبالغ إذا ما أكّدت على أن موسكو سوف تستخدم حق النقض في مجلس الأمن، إذا ما أصرّت البلدان الغربية تقديم مشروع القرار بالصيغة المعروضة حالياً. والغرب، كما عهدناه دائماً، لا يقول كل الحقيقة، حينما يزعم أن المساعدات الإنسانية تمثّل الحل للأزمة الحالية في سوريا، حيث أن المشكلة الحقيقية في سوريا إنما تكمن في الوضع المعيشي المتردّي إلى حد العبث، وهو ما تسببت فيه العقوبات الغربية، التي تحولت إلى عقاب جماعي للشعب السوري، ولا يبدو أن أياً من الدول الغربية يعنيها بأي حال من الأحوال تحسين أحوال الشعب السوري، والنظر بجدية إلى قضيته الإنسانية الحقيقية، وليس المناورات السياسية مع "نظام الأسد".
إننا في روسيا نسعى بكل جدية وحماس، بتنسيق مع أطراف مسار أستانا في أنقرة وطهران، إلى طرح ملف المساعدات الإنسانية، وهو ما سيكون أحد أهم المحاور لاجتماع أستانا المرتقب خلال أيام. والحل الممكن أمام الغرب، إذا ما كان حريصاً بالفعل على تحسين الوضع الإنساني للشعب السوري، هو التعاون مع مجموعة أستانا، التي تنسّق بدورها بشكل كامل مع حكومة دمشق، لترتيب آليات إدخال المساعدات الإنسانية، وتوزيعها على المناطق السورية.
وأتوقع أن يطلق اجتماع أستانا المقبل مبادرة جديدة بشأن المساعدات الإنسانية، تتمحور حول إعلان استعداد المجموعة لإيجاد الصيغ المناسبة لترتيب دخول المساعدات الإنسانية بالتعاون مع دمشق. وهو ما ستتركز عليه أولويات الاجتماع المقبل، بالإضافة إلى الملفات المطروحة أساساً على أجندة اللقاء مثل تثبيت الهدنة، ووضع آليات محددة لتنفيذ القرارات السابقة حول إدلب، بما فيها تكريس المنطقة منزوعة السلاح، وسحب أسلحة المقاتلين الثقيلة، وفتح الطرق الدولية، وتسوية أوضاع المقاتلين، ممن قاموا بتسليم أسلحتهم، أو وعدوا بتسليمها، وضمان عدم تعرّضهم لأي ملاحقات أمنية أو تضييقات.
ولعل ما يدعو للتفاؤل ما صدر عن دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من بيان إلى الرأي العام، نشرته صفحة الإدارة على موقع "فيسبوك"، ينص على استعداد الإدارة للحوار والتفاهم مع دمشق، والتزامها بالحوار والحل الوطني السوري مبدأً استراتيجياً، بينما رحّبت الإدارة بأي دور وسيط بما في ذلك الدور الروسي، لتحقيق نتائج عملية في هذا الإطار.
وقال البيان كذلك إن "الإدارة الذاتية على استعداد للدخول في الحوار مع دمشق، لكن مع ضرورة مراعاة خصوصية مناطقنا، والتضحيات التي تم تقديمها بالدرجة الأولى ضد الإرهاب ومن أجل سوريا ووحدتها ووحدة شعبها" (وأعتقد أن هذا مطلب محق، أرجو ألا تعتبره القيادة في دمشق شرطاً مسبقاً لبدء الحوار).
لا ولن أملّ من تكرار أن الحل في سوريا، لن يكون سوى عبر الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 2254 ودعم كافة الجهود المبذولة لتثبيت وتعزيز وقف إطلاق النار ومناطق التهدئة، والمضي قدماً في عمل اللجنة الدستورية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة، تشارك فيها جميع أطياف الشعب السوري، على أن يتم التحول السياسي بقيادة سورية، ودون تدخلات خارجية.
وعلى أصحاب المصالح السياسية والشخصية الضيقة مراعاة الظروف المستحيلة التي يعيشها الشعب السوري الصامد داخل وخارج سوريا، كما أن على القيادات السياسية في دمشق وجميع أطراف المعارضة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم في هذه اللحظة السياسية الدقيقة.
إن الأهم من مشكلة المعابر هو رفع العقوبات على سوريا، التي تحيل وصول المعدات وقطع الغيار الضرورية جداً لبعض القطاعات الحيوية التي تعطّلت ومن بينها في مجالات الطب والبنية التحتية لتأمين الماء والكهرباء وغيرها، والتي يحتاج إليها عامة الشعب السوري.
أتوجه بنداء إنساني حقيقي إلى الرئيس بايدن وجميع أعضاء مجلس الأمن الدولي ألا يصبّوا اهتمامهم على المعابر الإنسانية، وأن تتسع رؤيتهم لتشمل القضية الإنسانية الحقيقية وهي مساعدة الشعب السوري، بدلاً من تحقيق انتصارات ومكاسب سياسية ضيقة، من خلال لي ذراع الحقيقة، وتطويع استخدام المصطلحات الفضفاضة والكاذبة في كثير من الأحيان، ودس السم في العسل بقضية فتح المعابر الإنسانية.
الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر