العراق والديمقراطية في زمن المليشيا
كتب: عمار السواد
كان محمد حديد، والدُ المعمارية زها حديد، أولَّ وزير مالية في العراق الجمهوري. جاء به الضباطُ، وتحديدا رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، باعتباره مِن وجوه الليبرالية الوطنية حينها، ليكون جزءاً مِن محاولةٍ لم تكتمل لبناء ديمقراطية بديلة عن الديمقراطية غير المتكاملة في العهد الملكي.
بعد عامين، اختلف حَديد مع رفيقه القديم في الحزب الوطني الديمقراطي، كامل الجادرجي، بشأن مدى قدرة نظام يقوده عسكريٌ ومتفرّد بالحكم على صناعة الديمقراطية. اقتنع الثاني أنّ الديمقراطية غيرُ ممكنة مع قاسم، ما استدعى الانسحاب مِن الحكومة، بينما أصرّ الأولُ على وجود فرصة، لأن الوقت كان مبكّراً على الحكم سلباً. بقي حديد وعارض الجادرجي الحكم.
لم تتحقق الديمقراطية، لعوامل عديدة. الطموحُ الشخصي لعبد الكريم قاسم، والمطامعُ الأيديولوجية لجمال عبد الناصر لعبا دوراً حاسما في ذلك. ظلّ العراق في حكم عسكريٍّ حتى صعود صدّام حسين إلى سدّة الرئاسة. لم يكن الرجلُ عسكرياً قط، بل أعطى نفسَه صبغةً عسكريةً برتبةِ "مُهيب" غير الموجودة في التاريخ العسكري للجنرالات. انتقل الحُكْم من كونه عسكرياً إلى عائلي وأمني، غير أن الجانبين، العسكري والعائلي، في المعادلة ليسا الوجهين الوحيدين للحكاية. مع بدايات الجمهورية، ظهرتْ المليشيا واستمرّت متناسلة. ببروز دورِ الشموليات؛ الشيوعية والبعث، ولدت رغبةٌ في تنفيذ القانون عبر شريعة الحزب. ولدت أولُ مليشيا عراقية، هي المقاومة الشعبية التابعة للحزب الشيوعي.
تورّطت المليشيا بفداحة الدماء، وظل شعارها "ماكو (ليس هناك) مؤامره اتصير والحْبال (السحل بالحِبال) موجوده" مرعباً للخصوم. انقلب قاسمُ على الشيوعيين بعد أن وضعوه أكثر من مرة أمام مشهد دموي، فجمّد نشاطَهم ومليشاهم، لكنه لم يلاحقهم قضائيا. عدم ملاحقتهم عَنت لا ديمقراطية، ولا حكم قائماً على القانون. أصبح عندها رأيُ محمد حديد بوجود الأمل خطأً. لم يكن هناك أمل.
انتهى عام 1963 عهدُ قاسم، جاء البعثيون، فأسّسوا مليشيا بديلةً هي الحرس القومي، أوغلت كذلك بالدماء، بل بجرائم أشد فداحة، إلى درجة القول، بحسب ما نقله حنا بطاطو في كتابه "العراق" عن بعض المصادر إنّ عدد القتلى إثْر انقلاب 8 شباط بلغ خمسة آلاف شخص. أذكر هنا أن أبي، وهو يكرّر لي روايتَه، أنه حين كان في الثالثة عشرة من العمر، وبعد أنْ أنهى عبد السلام عارف، رئيسُ الجمهورية وقتها، نفوذَ الحرس القومي وفَتحَ سجون المليشيا، دخل أبي إلى أحد تلك السجون، ليرى ثدي امرأة مثبتا بمسمار على الحائط من أشكال الإعدام أو التعذيب.
تواصلت المليشيا التابعة للسلطة لاحقاً. مع صعود "البعث" الثاني عام 1968، ظهرت جماعات سرّية مثل جهاز حنين ثم الجيش الشعبي في ثمانينيات القرن الماضي، وأخيراً فدائيو صدام في التسعينيات. وليس مصادفةً أنّ تنظيم القاعدة وجيش المهدي ما بعد 2003 ارتدت عناصرُهما اللونَ الأسود ذاته الذي لبسه عناصرُ فدائيي صدام. هي لحظة الاستمرار اعتمادا على المروية الدينية المتخمة بالحديث عن الرايات السود. بدأ عندها تاريخٌ جديدٌ من المليشيات المناوئة للسلطة أو المتحالفة معها. وبالطبع، ليس التاريخ المليشياوي جمهورياً فقط، وليس دينيا فقط، لأن العشيرة المسلّحة هي نسخة أخرى من التسليح الخارج عن سياق الدولة. العشيرة أو العشائر موجودة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1920، بحيث اشتكى الملك فيصل الأول مِن أن سلاح الجيش أقل بكثير من سلاح القبائل.
العشائر علامة فارقة لطبيعة الأمور، فعندما أسقط نظام ديكتاتوري، بطريقة تراجيدية ومن الخارج تحديدا، سقط بذلك نظامٌ أفرغ بلاده من كل البدائل المتمدّنة. كان العراق فارغاً مِن قوى الطبقتين، الوسطى والمتوسّطة، لا وجود لها إلا كأفرادٍ يعيشون في منافٍ بعيدة. البلدان المفرغة من تلك القوى تعود، وقت انهيار السلطة القوية، إلى القوى الطبيعية أو التقليدية. في الحالة العراقية، لعب الانتماء العشائري وتَديّن اليائسين دوراً فاصلا في رسم الملامح اللاحقة. هذان تعزّزا في تسعينيات القرن الماضي، بفعل سياسات الرئيس العراقي الأسبق، صدّام حسين، نفسه. في زمن الحصار شُجّعت العشائرية، وأطلق على بعض شيوخها الجدد مصطلح "شيوخ التسعين". وشُجّع التدينُ من خلال ما أطلق عليها اسم "الحملة الإيمانية"، وإعطاءِ امتيازات في سياسات الضريبة لمن يبني مسجداً فضلا عن السماح للمرجع محمد الصدر، والدِ مقتدى الصدر، بممارسة نشاطاته الدينية الشعبية قبل أنْ ينقلب عليه.
لذا ارتبط 2003 بتلك المعطيات. الديمقراطية كمصطلح متعلقة بتلك السنة، وهي أمام الإرث الثقيل. الفاعلان الرئيسان قبل عام 2003 ظلّا فاعليْن حاسميْن بعده. العشيرة قوية ومسلحة، والمليشيات أيضا عزّزت حضورها، بعضُها وُجد قبل ذلك التاريخ. البيمشركة الكردية وفيلق بدر الشيعي المثالان الأبرز. تحوّلت البيشمركة إلى جيشٍ رسميٍّ يحمي إقليم كردستان ونظريا جزءٍ من الجيش العراقي، وأضفى فيلق بدر صفة الانخراط في المؤسسة العسكرية الرسمية عنواناً له. غير أن نوعاً آخر من الجماعات المسلّحة شقّ طريقه على التتابع، مليشيات معارضة للسلطة، باحثة عن المشاركة فيها أو السيطرة عليها، فعدا عن تنظيم القاعدة، تأسّست عام 2004 مليشيا جيش المهدي الشيعي التابع لمقتدى الصدر، وحمل السلاح ضد القوات الأجنبية والقوات العراقية، فضلا عن مناهضيه من العراقيين. إلى جانبه طيف من المليشيات السّنية، مثل جيش محمد وجيش الصحابة وكتائب ثورة العشرين..
لاحقاً، انشقّت المليشيات على بعضها، تكاثرت كذرّات منشطرة، تناسلت وكأن البلاد كانت مستعدّة لهذا الخصب، لتصبح بعد عام 2011، وهو موعد انسحاب القوات الأميركية، كثيرة. لعب رئيسُ الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الدورَ المركزي في تقوية التناسل. ساعد مليشياتٍ، مثل عصائب أهل الحق، على الظهور. كما دعم قوةَ العشائر ونفوذها عبر إجراءاتٍ هادفةٍ إلى حماية كرسيّه، لم يرد مغادرةَ منصب رئاسة الوزراء. وشعار دولة القانون الذي رفعه أفرغَه تماما من معانيه بسياساته الداعمة للأنماط غير الخاضعة للدولة، بل المتناشزة معها. ليكلل ذلك كله عام 2014 بقرار تشكيل "الحشد الشعبي" الذي بات القوة العسكرية المنافسة للجيش نفسه.
حسمت الذهنية المليشياوية صورة الحكم، راسمةً صورة الديمقراطية بكتلة خرساء تدلّ على صندوق اقتراع. لم تكن الديمقراطية سوى صناديق انتخاب مكتوب عليها "انتخب" أو "العراق ينتخب". لكن العراق المنتخِب ليس منتخِبا. إكراهات عديدة شدّت على عقول الناس وحياتهم، عدا عن ذلك هناك مناطق نفوذ متناحرة قادرة على استبدال الأصوات بدون أن يدرك أحدٌ ذلك، وإن أدرك فلا سلطان لأحد كي يغيّر شيئا.
طبعا، المليشيا ليست العقبةَ الوحيدة أمام التحوّل إلى الديمقراطية. هناك العجز عن التعامل مع الديمقراطية كبنية يدعم بعضها بعضها الآخر، وليس كصناديق اقتراع مجرّدة من حقوق الإنسان والحريات وبقية عناصرها. هناك أيضا العقيدة المجتمعية غير المؤهلة أصلا للحرية، فضلا عن أنّ الديمقراطية جاءت إلى العراق مع القنابل، فلا يمكن فِعلُ كثير مع هذه الشروط، غير أن هذه العوامل تبقى ثانوية أمام العقبة الكبرى، وهي وجود سلاح موجّه لصناعة الإكراهات.
لم تتحقق فرصة التغيير ليس لأنها غير ممكنة، بل لأن البنادق موجّهة إلى الخيارات المختلفة، وهي أيضا موجّهة إلى بعضها كي تبقى الأرضية غير مؤهلة. انتخابات عام 2018 كشفت عن ذلك، فعنوانها الفائزون هم المسلحون. كتلة سائرون بقيادة مقتدى الصدر وكتلة الفتح بقيادة الحشد الشعبي. الجامعتان الآن تسعيان إلى تكرار التجربة، اعتماداً على تقاسم النفوذ، جغرافياً وسياسيا. خصوصا أن الاحتجاجاتِ مستمرةٌ تصفيةُ ناشطيها بسلاح يعرفه الجميعُ ويجهله القانونُ، لأن المليشيا في العراق قانونٌ أو القانون.