لم لا تشتري الإمارات والسعودية لأنفسهما بعض المشكلات؟
هل يخسر المستثمرون العرب أموالهم في أوكرانيا، كما حدث سابقاً مع الروس والصينيين؟
في زيارة للإمارات، فبراير الماضي، قام بها الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، جرى التوقيع على عدة مذكرات لاستثمارات إماراتية في أوكرانيا، بلغ مجموعها أكثر من 3 مليارات دولار. كان الجزء الأكبر منها مخصصاً للمشاركة في خصخصة أصول أوكرانية في مجال الزراعة، وكانت وسائل الإعلام قد نشرت سابقاً تقارير عن استثمارات سعودية مماثلة في أوكرانيا.
في مطلع يوليو الجاري، فتحت أوكرانيا، سوق بيع أراضيها، وهو ما سيتيح عبر بعض الآليات والإجراءات إمكانية بيعها للمستثمرين الأجانب. وتعدّ التربة السوداء الأوكرانية من أفضل الأراضي الزراعية حول العالم، لذا كان من المنطقي للغاية أن تلقى اهتماماً من جانب المستثمرين العرب بها.
إلا أن قضية بيع الأراضي الأوكرانية للأجانب هي واحدة من أكثر القضايا سخونة وجدلية داخل المجتمع الأوكراني، حيث تعارض أغلبية الشعب الأوكراني، زهاء 65%، بشكل قاطع البيع المفتوح للأراضي، بينما يعارض 84% من الشعب بيع الأراضي للأجانب.
وكان الرئيس الأوكراني الحالي، زيلينسكي، قد وعد، من خلال برنامجه الانتخابي، أن يحل هذه القضية حصرياً من خلال الاستفتاء. لكنه، وبطبيعة الحال، خدع الشعب، واتخذ القرار بدون استفتاء، وضد إرادة الشعب.
لا أعتقد أن ذلك تحديداً كان السبب في انخفاض شعبيته لتصل إلى 34% فقط من الأوكرانيين ممن يوافقون أداءه، مقابل 53% غير مقتنعين به. بل نتيجة للتدهور المستمر في مستويات المعيشة، وكذلك التدهور المزمن للدولة الأوكرانية. ففي عام 2020، انكمش الاقتصاد الأوكراني بنسبة 8%، بينما استمر الانخفاض هذا العام بنسبة 2% فقط في الربع الأول من العام الحالي.
على أي حال، فإن تجاهل إرادة الشعب، وخداع المواطنين في قضية بيع الأراضي للأجانب لا شك يقوّض شرعية أي قرار لبيع الأرض، ويجعل مراجعة مثل هذه المعاملات أمراً محتملاً للغاية.
ولمراجعة مثل هذه القرارات هناك احتمالان:
الأول، يعود لعقلية السلطات الأوكرانية التي لا تحترم حق الملكية الخاصة في العموم، وهو تقليد أوكراني في خداع المستثمرين، ودعوتهم للاستثمار بوعود مغرية، ثم مصادرة أصولهم دون أي تعويض. كان هذا هو الحال مع عدد من أصول الشركات الروسية الخاصة بعد انقلاب عام 2014، ثم مؤخراً مع المستثمرين الصينيين في الشركة الأوكرانية "موتور سيتش" Motor Sich، كما كتبت في مقال سابق. بمعنى أن أي استثمار أجنبي في أوكرانيا ليس سوى صيد ثمين للأوليغارشية الأوكرانية والحكومة، التي تعاني دائماً من نقص في المال.
الثاني، هو غياب الاستقرار السياسي الذي يعاني منه الاقتصاد الأوكراني المتدهور، فالسلطة في أوكرانيا قد تأرجحت فعلياً عدة مرات من خلال الانقلابات التي مرت بها البلاد، والمرشح لها أن تستمر. وبطبيعة الحال، سوف يتغير التعامل مع قضية الأرض، بتغيير المسار السياسي للبلاد.
وحتى مع افتراض عدم وجود انقلابات، فإن حقيقة أن 84% من الشعب الأوكراني يعارضون بيع الأراضي للأجانب، تضمن إدراج هذه القضية ضمن برنامج أي معارضة سياسية، بل ويجعل هذه القضية إحدى الأولويات في أي انتخابات مقبلة.
كذلك، فإن هناك خطر منفصل بالنسبة للمستثمرين، وهو الاحتمال المتزايد بسرعة لنهاية الدولة الأوكرانية كما نعرفها الآن على الخريطة، وهو ما يثير التساؤل حول معنى أي استثمار بشكل عام.
أولاً، يجب ألا ننسى استخدام واشنطن أوكرانيا كسلاح ضد روسيا. وكانت أوكرانيا، في ربيع هذا العام، قد بدأت تصعيداً للعدوان ضد جمهوريات الدونباس، كان من شأنه أن يجرّ روسيا، وربما الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو نحو المواجهة. وقد صرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مراراً وتكراراً أن الهجوم على دونباس سيكون له ثمن باهظ بالنسبة للدولة الأوكرانية، وأن روسيا لن تسمح باستخدام الأراضي الروسية التاريخية ضدها، وهي أراضٍ ورثتها أوكرانيا بالخطأ عن الاتحاد السوفيتي عند تفككه. إلا أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تراجع عن هذا التصعيد في مواجهة التعبئة العسكرية الروسية، لكن التصعيد يمكن أن يستأنف في أي وقت.
ثانياً، لم تكن هناك، قبل تفكك الاتحاد السوفيتي، دولة في التاريخ تسمى "أوكرانيا" (باستثناء حالة الكيانات العميلة التي أنشأتها ألمانيا خلال محاولاتها لغزو روسيا). فأوكرانيا ببساطة كيان مصطنع، يقطنه سكان شديدي التنوع الإثني، دون أن يكون لهم وعي وطني واحد، منقسمون على أنفسهم للغاية وفقاً لمناطق تواجدهم، ولأولوياتهم السياسية وغيرها.
وبحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، لم يحصل أي من الأحزاب السياسية على أكثر من 15% من أصوات الناخبين، بينما يتمتع كل حزب من هذه الأحزاب بثقل سياسي قوي في منطقة واحدة من المناطق الثلاث الكبرى، إلا أنه هامشي في المناطق الأخرى. في الانتخابات الإقليمية والبلدية الأخرى، انتصرت الأحزاب المحلية الصغيرة والسياسيون الذين يعتمدون على الأوليغارشية الإقليمية، دون أن يتخطوا مناطق نفوذهم.
أي أننا نرى أوكرانيا تتجه تدريجياً نحو اللامركزية، حيث تفقد الحكومة المركزية سلطتها، لتصبح مجرد وسيط بين الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحل القضايا السياسية العامة للحكم في أوكرانيا، وبين النخب الإقليمية، التي تسعى لتركيز المزيد والمزيد من السلطة "على الأرض" في أيديهم.
وبشكل عام، وكما هو الحال في أفغانستان، تعجز واشنطن في أوكرانيا عن إنشاء إدارة فعّالة بأيدي عملائها، في الوقت الذي تتدهور فيه الدولة وتتفكك إلى مناطق.
وبدون دعم خارجي، تصبح أوكرانيا دولة فاشلة ومفلسة اقتصاديا وعاجزة عن البقاء، بينما لا تريد ولا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية، على الناحية الأخرى، دعم أوكرانيا. ومع استكمال مشروع "السيل الشمالي-2"، ستخسر أوكرانيا أيضاً الأموال الروسية التي تحصل عليها لنقل الغاز الروسي، وهو ما يعني انهياراً اقتصادياً وشيكاً لهذه الدولة.
لذلك فاختفاء الدولة الأوكرانية كما نراها الآن على الخريطة مسألة وقت لا أكثر، وهذا سوف يحدث دون أي مشاركة من موسكو على الأرجح، وإنما لأسباب داخلية موضوعية.
وفي مثل هذه الظروف، تبدو قرارات دول الخليج الاستثمار في أوكرانيا أقرب لإعانات ودعم للحكومة الأوكرانية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية، بضغط من واشنطن، أكثر من كونها استثمارات يتوقع أن تكون مربحة. بل أعتقد أنه من غير المرجّح أن تحقق هذه الأموال أي أرباح، وإنما ستذهب هباءً.