الانتخابات التشريعية الإثيوبية: قراءة في النتائج والتفاعلات الداخلية والإقليمية
جرت الانتخابات التشريعية الإثيوبية في ظل انقسام سياسي ومجتمعي عميق، كما جرت في ظل أزمات إقليمية كبيرة استطاع آبي أحمد تجييرها لتحقيق فوز انتخابي كبير.
حقق تحالف حزب الازدهار الحاكم في إثيوبيا، بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، فوزًا كبيرًا في الانتخابات التشريعية، التي جرت في 21 حزيران/ يونيو 2021 وأُعلنت نتائجها الرسمية في 10 تموز/ يوليو، والتي كان مقررًا عقدها في العام الماضي، لكنها أُجّلت مرتين بسبب انتشار وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). وجاءت هذه الانتخابات في وقت تواجه فيه إثيوبيا أزمات خارجية وتوترات داخلية متعاظمة، وبسببها لم يجرِ التصويت في نحو خُمس دوائر البلاد البالغ عددها 637 دائرة، حيث اقتصر الاقتراع على ثمانية من أصل عشرة أقاليم.
فوز تحالف الحزب الحاكم
تنافس في الانتخابات التشريعية الإثيوبية نحو 46 حزبًا سياسيًا، بينها 17 حزبًا قوميًا و29 حزبًا إقليميًا، وبلغ عدد المرشحين فيها 9505 مرشحًا. وأظهرت النتائج، التي أعلنتها لجنة الانتخابات الوطنية، فوز تحالف حزب الازدهار بـ 410 مقاعد من أصل 436 مقعدًا كانت محل تنافس في غرفة البرلمان الذي يضم 547 مقعدًا، على أن تجري جولة ثانية من التصويت لاستكمال المقاعد المتبقية البالغ عددها 111 مقعدًا في 6 أيلول/ سبتمبر المقبل، بحسب ما أعلنته لجنة الانتخابات الوطنية. ويُرجَّح على هذا الأساس أن تقوم رئيسة البلاد، سهلي ورق زودي، بتكليف رئيس الوزراء الحالي، آبي أحمد، بتشكيل الحكومة الجديدة، باعتباره زعيم الحزب الحاصل على الأكثرية البرلمانية، وكون نتائج الجولة التكميلية لن تؤثر في تركيبة البرلمان، حتى لو فازت المعارضة بجميع المقاعد المتبقية فيه.
وقد شهدت الانتخابات مقاطعة من جانب أحزاب معارضة كبرى في البلاد، بما فيها الأحزاب الرئيسة في إقليم أوروميا، وهو الإقليم الأكثر كثافة من ناحية عدد السكان ويتحدّر منه آبي أحمد نفسه، حيث قاطع الانتخابات حزبان من أبرز أحزاب المعارضة في الإقليم، هما مؤتمر أورومو الفدرالي OFC وجبهة تحرير أورومو OLF. وأقرت المفوضية الإثيوبية لحقوق الإنسان، وهي هيئة إثيوبية، بوقوع تجاوزات بما فيها "اعتقالات غير مناسبة"، وعمليات ترهيب و"مضايقات" جرت لمراقبين وصحافيين قبل التصويت وبعده. كما وقعت في منطقة أوروميا حوادث قتل في الأيام التي سبقت التصويت، بحسب تقرير المفوضية. وتقدمت الحركة الوطنية لأمهرة المعارضة المعروفة بـ "أبن"، أيضًا، بشكاوى إلى مفوضية الانتخابات الإثيوبية زعمت فيها أن العديد من مراقبيها تعرّضوا للضرب والطرد من أنصار الحزب الحاكم، ما يعني أن مجرى العملية الانتخابية لم يختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تشهدها إثيوبيا في عهد النظام السابق إبان حكم الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، بقيادة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي، إذ كان يفوز الائتلاف الحاكم وحلفاؤه بجميع المقاعد. ورغم ذلك، تبقى الأحزاب فاعلة في الحياة السياسية الإثيوبية، ولديها حرية نسبية في الإعلام.
سياق الانتخابات
جرت الانتخابات التشريعية في مناخ سيطرت فيه على المشهد السياسي للبلاد تحديات داخلية وإقليمية كبيرة، وكان لبعضها تداعيات مهمة على العملية الانتخابية، وأهمها:
1. حرب إقليم تيغراي
مثّلت الانتخابات أحد الأسباب التي أدت إلى اندلاع أزمة إقليم تيغراي عام 2020. فعندما أقدمت السلطات الفدرالية على تأجيل الانتخابات في حزيران/ يونيو 2020 بسبب جائحة كوفيد-19، رفضت حكومة إقليم تيغراي القرار، ووصفت قرار تمديد عمر الحكومة والبرلمان الفدرالي بأنه غير دستوري، وأُجريت الانتخابات أحاديًا من طرف الإقليم في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، فأعلنت الحكومة الفدرالية عدم شرعيتها ورفضت الاعتراف بالحكومة الإقليمية الجديدة، فردّ الإقليم برفضه الاعتراف بشرعية الحكومة الفدرالية باعتبار أن فترتها الدستورية انتهت، ما فجّر صراعًا بين الطرفين، قامت في إثره الحكومة الفدرالية باجتياح الإقليم عسكريًا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 وأطاحت بحكومة جبهة تحرير شعب تيغراي. ومع أن الأسباب التي أدت الى اندلاع الحرب تتجاوز الخلاف حول مسألة الانتخابات، إلا أن الأزمة دخلت منعطفًا جديدًا بعدها، إذ استعادت جبهة تحرير شعب تيغراي في 28 حزيران/ يونيو 2021 السيطرة على عاصمة الإقليم "مقلي" ومعظم الأراضي التي اجتاحتها قوات الحكومة الفدرالية، بعد أن حاصرت ما يقارب من عشرة آلاف جندي من الجيش الفدرالي وأَسَرتهم، في حين قالت الحكومة الفدرالية إنها انسحبت من الإقليم طوعًا ولدواعٍ إنسانية. والواضح أن آبي أحمد اختار توقيت الانسحاب من الإقليم بعد أن اتضح أن قراره اجتياح الإقليم بالتحالف مع إريتريا مغامرةٌ غير محسوبة كانت لها تداعيات سلبية كبيرة.
مثّلت استعادة "مقلي" انتصارًا كبيرًا لقوات دفاع تيغراي TDF ضد القوات الفدرالية والإريترية والميليشيات العرقية من الأمهرة، كما اتضح من صور آلاف الأسرى من الجنود الإثيوبيين والإريتريين التي عرضتها جبهة تحرير شعب تيغراي على وسائل الإعلام. وقد وثّقت تقارير دولية حقوقية حجم الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الإريترية خلال تدخّلها الأخير في الإقليم إلى جانب قوات الحكومة الفدرالية. وفي حين أججّت تلك التقارير مشاعر المقاومة لدى شعب تيغراي ضد ما سموه "تحالف الغزاة"، شكلت هذه التقارير الحقوقية والعقوبات الغربية على الحكومة الفدرالية أداة ضغط قوية دفعتها إلى الانسحاب من الإقليم بعد سبعة أشهر من اجتياحه.
حذرت الأمم المتحدة من كارثة إنسانية تحيق بأكثر من 400 ألف شخص يواجهون المجاعة في تيغراي، كما يقف 1.8 مليون آخرون على حافة المجاعة. وقد تصاعدت الضغوط الدولية على حكومة آبي أحمد بسبب التقارير الحقوقية الدولية المتعلقة بالإقليم، وأدى ذلك الى تحول في موقف المانحين التقليدين لإثيوبيا. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2020، جمّد الاتحاد الأوروبي 107 ملايين يورو كانت مخصصة لدعم ميزانية الحكومة. وفي أيار/ مايو 2021، فرضت الولايات المتحدة قيودًا على مسؤولين إثيوبيين (وإريتريين) على خلفية ارتكابهم تجاوزات خطيرة خلال الحرب في تيغراي.
وقد تدفع هذه الضغوط حكومة آبي أحمد الجديدة إلى رفع الحصار عن الإقليم، والالتزام بإيصال المساعدات الدولية، وإطلاق حوار مع قادة جبهة تحرير شعب تيغراي لحل النزاع، خاصة بعد إجراء الانتخابات التي أدت دورًا رئيسًا في اندلاع الحرب، ومن المؤكد أن هذه الخطوة ستجنّب إثيوبيا الذهاب إلى حرب أهلية طويلة الأمد، في ضوء تصاعد التوترات العرقية في مناطق وأقاليم أخرى من البلاد. ويُستبعد، بعد أن ضمن آبي أحمد بقاءه في الحكم نتيجة فوز حزبه في الانتخابات، أن تعود الحكومة الفدرالية إلى مهاجمة الإقليم، ليس لأن موسم الأمطار الذي بدأ منذ وقت قريب يتسبّب في صعوبة الحركة وقطع خطوط الإمداد فحسب، بل بسبب عدم رغبة الحكومة في تحمّل المسؤولية عن تفاقم الأوضاع الإنسانية التي يعانيها الإقليم أيضًا. بيد أنه، من جهة أخرى، إذا لم تضمن حكومة الإقليم توفير الخدمات الحيوية، مثل الاتصالات والكهرباء، التي تتحكم فيها الحكومة الفدرالية، فإن جبهة تحرير شعب تيغراي قد تبدأ حربًا جديدة مع إقليم أمهرة المجاور، لفتح معبر نحو السودان، وسيطلق هذا بدوره أزمة جديدة بين إثيوبيا والسودان.
2. أزمة سد النهضة
تزامنت الانتخابات مع موعد الملء الثاني لـسد النهضة، الذي بدأ مطلع تموز/ يوليو 2021، بعد فشل المفاوضات مع مصر والسودان، اللتين كانتا تعولان من دون مبرر على جلسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الثامن من الشهر ذاته لإصدار قرار دولي يمنع إثيوبيا من ملء السد من دون اتفاق معهما، لكن هذا لم يحصل، كما كان متوقعًا، إذ أعاد المجلس الموضوع إلى الاتحاد الأفريقي الذي يتولى الوساطة بين الأطراف الثلاثة، وهو مطلب إثيوبيا. وفي حين عدّت إثيوبيا هذا التطور إنجازًا سياسيًا كبيرًا لها، فإنها تتجه على ما يبدو إلى فرض أمر واقع بشروعها في الملء الثاني للسد من دون اتفاق مع دولتَي المجرى والمصبّ. وقد أعلن العقيد بوتا باتشاتا ديبيلي، مدير الإدارة الهندسة في وزارة الدفاع الإثيوبية، "أنه عندما يكتمل الملء الثاني للسد سوف يضطر الجميع إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، وعندها سيكون على البلدين [السودان ومصر] أن يسهما في حماية السد من أي طرف آخر يحاول مهاجمته، لأن التحرك العسكري ضد السد سيجرفهما إلى البحر المتوسط"؛ في إشارة إلى الفيضانات التي قد يؤدي إليها إلحاق الضرر بالسد. وهذا يعنى بحسب التقديرات الإثيوبية تحويل السد إلى قنبلة مائية في مواجهة ضغوط جيرانها الشماليين.
وفي السياق الفني، من الوارد استمرار ملء السد حتى آب/ أغسطس المقبل، لزيادة كمية المياه المحتجزة من المياه، لتتجاوز بالفعل 13 مليار متر مكعب. غير أن بعض الخبراء المصريين تحدّثوا عن إمكانية توجيه ضربة عسكرية محدودة لعرقلة الملء الثاني للسد قبل اكتماله، وليس لتدمير السد كليًا، لكن هذا الخيار يواجه أيضًا عراقيل عدة؛ أولها، غياب التأييد الدولي والإقليمي لمثل هذه الخطوة، خصوصًا بعد فشل جلسة مجلس الأمن بإصدار قانون ملزم لإثيوبيا، والاتجاه الدولي العام الرافض لأي عملية عسكرية. كما أن هذا الأمر سوف يدفع الإثيوبيين إلى الالتفاف أكثر حول قيادة آبي أحمد الذي حوّل قضية السد إلى قضية كرامة وطنية في إثيوبيا، فضلًا عن أهميته التنموية، ويبدو أن هذا الأمر أدى دورًا مهمًا في توسيع قاعدة دعمه الشعبية ومنحه نصرًا انتخابيًا كبيرًا في ضوء مواقفه المتشددة بخصوص استكمال بناء السد وملئه. لكن آبي أحمد يخاطر هنا أيضًا بتجاهل مصالح مصر والسودان كليًا، وإطلاق أزمة إقليمية كبيرة في وقت يواجه أزمات داخلية متعددة يمكن أن تطيح حكمه.
3. الأزمة الحدودية مع السودان
التحدي الثالث الذي يواجه حكومة آبي أحمد الجديدة هو الأزمة الحدودية مع السودان، التي تفجرت بالتزامن مع اجتياح قوات الحكومة الفدرالية لإقليم تيغراي، وتزايد التوتر بشأن سد النهضة. وأصل الخلاف بين الطرفين هو على أراضٍ زراعية حدودية في منطقة الفشقة تبلغ مساحتها نحو 260 كيلومترًا مربعًا، تقول السودان إنها تعود إليها بموجب اتفاقية ترسيم الحدود التي وقّعتها بريطانيا عام 1920 لوضع حد للسياسات التوسعية لإمبراطور الحبشة في ذلك الوقت، منيليك الثاني، في حين ترفض إثيوبيا ذلك فشجّعت قبائل محلية إثيوبية على الاستيلاء عليها واستثمارها، إلى أن قام الجيش السوداني في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2020 باستعادتها، مستغلًا انشغال إثيوبيا بحرب تيغراي، وتبادَل الطرفان لاحقًا الاتهامات حول من بدأ إطلاق النار.
ويستغل الطرفان حاليًا هذه الأزمة لأغراض داخلية، إذ يصوّرها آبي أحمد على أنها جزء من حرب إقليمية تهدد إثيوبيا ينبغي أن يلتف الشعب حول حكومته لمواجهتها، وقد اتهمت أديس أبابا السودان مرارًا بدعم جبهة تحرير شعب تيغراي. وفي المقابل، يجد المكون العسكري في مجلس السيادة السوداني في النزاع الحدودي مع إثيوبيا فرصةً لتعزيز وضعه في السلطة باعتبار أن البلاد تواجه تهديدات أمنية خارجية كبرى ينبغي التركيز عليها، في مقابل تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية داخلية متفاقمة.
ومن الواضح أن تفاعلات سد النهضة ألقت بظلالها على هذه الأزمة أيضًا، فقد أجرى الجيشان السوداني والمصري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 مناورات جوية مشتركة، مدة أسبوعين، في قاعدة مروي الجوية الواقعة شمال السودان تحت مسمى "نسور النيل"، طرأ في إثرها تحول في موقف السودان بخصوص سد النهضة، إذ أخذ الموقف السوداني يقترب من الموقف المصري بشأن السد، بعد أن كان يبدي مرونة أكبر حياله. وفي المقابل، سعت الخرطوم إلى الحصول على دعم مصري في نزاعها الحدودي مع إثيوبيا للضغط عليها لإعادة ترسيم الحدود بما يضمن اعترافها بسودانية منطقة الفشقة. ومن المحتمل أن يسعى آبي أحمد بعد ضمان فوزه بالانتخابات، والشروع في الملء الثاني للسد، وعودة المفاوضات إلى الاتحاد الأفريقي، إلى خفض التوتر مع السودان بشأن الخلاف الحدودي، في ضوء التحديات الداخلية التي يواجهها، وقد يسعى أيضًا، من خلال تقديم تنازلات حدودية، إلى محاولة فصل السودان عن مصر بخصوص سد النهضة.
خاتمة
جرت الانتخابات التشريعية الإثيوبية في ظل انقسام سياسي ومجتمعي عميق، إذ قاطعتها أحزاب معارضة رئيسة بحجة غياب شروط النزاهة والشفافية، كما جرت في ظل أزمات إقليمية كبيرة استطاع آبي أحمد تجييرها لتحقيق فوز انتخابي كبير. ويراهن أحمد على أن الأغلبية البرلمانية الكبيرة التي حصل عليها سوف تمكّنه من ترسيخ دعائم حكمه، وتنفيذ سياساته. وبالفعل، مكّنته هذه الانتخابات من التحول من رئيس حكومة انتقالية جاء إليها عام 2018 نتيجة توافقات سياسية طارئة إلى رئيس حكومة منتخب بإرادة شعبية. لكن هذه الانتخابات وضعته، في المقابل، أمام أزمات إقليمية وداخلية معقدة يمكن أن تقوّض حكمه، وفي مقدمة ذلك، التوترات الإثنية والنزعات الانفصالية المتعاظمة في عدد من الأقاليم التي تزيدها سوءًا الأوضاعُ الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وأزمةُ نزوح داخلية كبرى تشهدها البلاد في ظل تفشي موجة جديدة من وباء كوفيد-19.