جرائم نبيه بري
استباحت حركة «أمل» دم أشقائها من الفلسطينيين، الذين وجدوا في أركان مخيمات دولة شقيقة ملاذًا لهم من بطش عدو لا يرحم، فمن الفرار من عدو جرعهم مرارة الهجر واللجوء إلى شقيق أذاقهم ويلات القتل والتشريد.
«أمل» المحرومين
في عام 1974م أسس الإمام «موسى الصدر» بالتعاون مع النائب «حسين الحسيني» تنظيمًا سياسيًا للشيعة في لبنان، الذي عُرف بحركة «المحرومين»، وتكونت حركة «أمل» لتمثل الجناح العسكري لحركة المحرومين الوليدة، ومسمى أمل هو اختصار لتعبير «أفواج المقاومة اللبنانية».
وقد كان الهدف من تأسيس حركة المحرومين هو دعم قضايا الشيعة في لبنان، ويتلخص ذلك بتمثيلهم بشكل متكافئ في مؤسسات الدولة والحصول على نصيبهم من ثروات البلاد وتنمية مناطقهم ومعظمها في الجنوب وتحصينها ضد اعتداءات إسرائيل.
في بداية تأسيس الحركة رفض السيد موسى الصدر توريط حركة أمل في الحرب الأهلية في لبنان عام 1975م؛ الأمر الذي قوّض مصداقيتها في أعين الكثير من الشيعة الذين توجهوا لتأييد منظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب اليسارية الأخرى، كما أن الحركة لم تحظَ في بداياتها بشعبية تُذكر نظرًا لتأييدها التدخل السوري في لبنان عام 1976م.
ولكن اختفاء زعيم الحركة بشكل غامض في ليبيا عام 1978م، أعاد الحركة إلى الواجهة؛ ما جعل الإمام المفقود رمزًا دينيًا لا يختلف عن تغييب الإمام الثاني عشر عند الشيعة.
وفي عام 1980م تزعم المحامي الشاب «نبيه بري» قيادة الحركة، وشارك خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م في هيئة الإنقاذ الوطني التي شكّلها الرئيس «إلياس سركيس» بالتعاون مع حلفائه في حزب الكتائب، الذين شجعوا اجتياح إسرائيل للبنان، وكان ذلك سببًا في انفضاض عدد من كوادر الحركة الذين شكّل بعضهم «حزب الله» في وقت لاحق.
وعلى الرغم من أن ميثاق حركة أمل يعتبر «القضية الفلسطينية» قضية العرب الأولى، لكن ذلك لم يمنع الحركة من خوض حرب على الفلسطينيين في لبنان بين أعوام 1985-1987م نيابة عن الرئيس السوري «حافظ الأسد»، الذي كان على خلاف مع زعيم منظمة التحرير «ياسر عرفات».
ولم تكن الحرب التي عُرفت بـ «حرب المخيمات» هي المرة الأولى التي خاضت فيها حركة «أمل» حرب إبادة ضد الفلسطينيين، فقد سبقها اشتراك الحركة في المجزرة الشهيرة لمخيمي «صبرا وشاتيلا».
«صبرا وشاتيلا» بين فكيْ الاحتلال وأمل وحبيقة
على إثر الصراع الذي فتّ في عضض لبنان منذ عام 1975م، واستمر لمدة 15 عامًا ضمن حرب أهلية تشابكت فيها كل القوى واتحد اليسار بقيادة «كمال جنبلاط» جنبًا إلى جنب مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ضد كل من حزب الكتائب بقيادة بشير الجُميل، وحركة أمل الشيعية التي كانت تأخذ التعليمات من حافظ الأسد على خلفية صراع الأسد التاريخي مع حركة فتح.
كانت مذبحة «صبرا وشاتيلا» حلقة من حلقات الصراع بين تلك الأطراف، وكان من ضمن أسباب المذبحة هو اتهام السلطات اللبنانية لحركة فتح بأنها تسعى للاستقلال وتوريط لبنان من خلال مهاجمة الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية؛ ما يُعرّض لبنان للقصف الإسرائيلي، ومن ثم دخلت الدولة حربًا مع المخيمات الفلسطينية، واستغلت إسرائيل تلك الفرصة، وقامت بمساعدة منفذي المجزرة، فكانت مهمة جيش الاحتلال هي محاصرة المخيمات من كل النواحي ومنع أي وكالة من وكالات الإعلام الدخول لنقل وقائع تلك المجزرة التي استمرت لمدة ثلاثة أيام متواصلة.
وبعد التنسيق المشترك بين «إسرائيل» و«حزب الكتائب» و«حركة أمل» تم الاتفاق أن يكون يوم 16 سبتمبر/أيلول 1982م هو يوم الانتهاء من سكان المخيمات، ليتم تجهيز 3 فرق لتنفيذ المجزرة التي راح ضحيتها حوالي 3500 من الرجال والنساء والأطفال.
وكان أول من دخل إلى المخيمات لتنفيذ عملية القتل البارد هو حزب الكتائب بقيادة «إيلي حبيقة»، فتمت عمليات القتل التي طالت الأطفال والنساء، وقاموا بأكثر من 50% من تلك المجزرة قبل أن تساعده حركة أمل.
وكان لحركة أمل أسبابها في الاشتراك في تلك المجزرة بعد غضب الرئيس السوري السابق «حافظ الأسد» على منظمة «فتح» الفلسطينية، ومن ثم أعطى توجيهاته للحركة بتطهير لبنان من المخيمات.
في فبراير/شباط 1983م، أوردت لجنة التحقيق الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا – وهي لجنة مستقلة تألفت من ثلاثة أعضاء وعُرفت باسم «لجنة كاهان» – اسم «أرييل شارون» في نتائج تحقيقها باعتباره أحد الأفراد الذين «يتحملون مسئولية شخصية» عن المجزرة.
فتناول تقرير لجنة كاهان بالتفصيل الدور المباشر الذي قام به شارون في السماح لأفراد ميليشيا الكتائب بدخول مخيمي صبرا وشاتيلا، فقد شهد الجنرال «رفائيل إيتان»، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، على سبيل المثال، بأن دخول ميليشيا الكتائب المخيميْن تم بناء على اتفاق بينه وبين شارون، وزير الدفاع حينها.
وفي وقت لاحق توجه شارون إلى المقر الرئيسي لميليشيا الكتائب حيث التقى بعدة أشخاص، من بينهم بعض قادة الكتائب، وأصدر مكتب وزير الدفاع السابق أرييل شارون وثيقة تتضمن «تلخيص وزير الدفاع لأحداث الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 1982م»، جاءت فيها عبارة تقول: «لتنفيذ عملية المخيمين يجب إرسال ميليشيا الكتائب»، كما ذكرت هذه الوثيقة أن «قوات الدفاع الإسرائيلي سوف تتولى قيادة القوات في المنطقة».
«حرب المخيمات»: استباحة الدم الفلسطيني
وها قد عادت حركة أمل مجددًا لتفتح الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل، وتضرب بكل قوتها المخيمات المكلومة، التي لم تكن قد استفاقت بعد من الضربات الأولى، مدعومة تلك المرة بالجيش السوري والجيش اللبناني وبعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من قبل سوريا، ضد قوات فتح الموالية لياسر عرفات ومقاتلين حركة المرابطين، وقد بدأت أمل جولتها تلك بمخيمي الصبر والعزيمة «صبرا وشاتيلا».
ففي يوم 19 مايو/أيار 1985م، كانت دورية مسلحة تابعة لأمل تجوب مخيم صبرا، وتوقفت الدورية قرب فتى يحمل مسدسًا حربيًا – وهي ظاهرة مألوفة في لبنان – فحاولت اعتقاله بحجة أنه حاول تهديدهم، لكنهم فشلوا، وأفلت الفتى من أيديهم، وكانت هذه الحادثة بداية حرب دامية.
حيث قامت حركة أمل بالفعل بما كانت ترجوه إسرائيل للمخيمات الفلسطينية في لبنان، فعلى مدار سنتين ونصف أذاقت حركة أمل المخيمات الفلسطينية ويلات حرب ضروس عُرفت إعلاميًا بـ «حرب المخيمات»، وكانت البداية أول ليلة في رمضان ليلة الإثنين 20 مايو/أيار 1985م، حيث اقتحمت ميلشيات أمل مخيمي صبرا وشاتيلا، وقامت باعتقال جميع العاملين في مستشفى غزة، وساقوهم مرفوعي الأيدي إلى مكتب أمل في أرض جلول، وقد منعت قوات الحركة الهلال والصليب الأحمر وسيارات الأجهزة الطبية من دخول المخيمات، وقطعوا إمدادات المياه والكهرباء عن المستشفيات الفلسطينية.
وفي فجر اليوم التالي، بدأ مخيم صبرا يتعرض للقصف المركّز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة، من عيار 106 ملم، كما تعرض مخيم برج البراجنة لقصف عنيف بقذائف الهاون، وانطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال، وأصدر قائد الحركة نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني بخوض المعركة، وقد شارك بالفعل بكامل طاقاته، وقام بقصف مخيم برج البراجنة من عدة جهات، وقد بادرت قيادة الجيش اللبناني ممثلة في ميشيل عون ولأول مرة منذ شهر فبراير/شباط 1984م، إلى إمداد اللواء السادس بالأسلحة والذخائر.
وتم حصار المخيم ثلاثين يومًا، ودُمر حوالي 90% منه تدميرًا كاملاً، وسقط ما يقرب من 85 شهيدًا وشهيدة.
وفي أواخر 1986م تجددت المعارك، وامتدت لستة أشهر أخرى، تعرض المخيم خلالها لمجاعة حقيقية، ونقص حاد في المواد المعيشية والطبية، فأكل الناس لحم القطط والكلاب، والبرغل مسلوقًا بالماء والملح. وكان كل اثني عشر مقاتلاً يأكلون علبة حلوى واحدة فقط، وكان المقاتل يقتات على نصف رغيف خبز في اليوم في آخر شهرين من الحصار.
والسؤال هنا: أكانت «حرب المخيمات» حربًا عفوية، تسبب فيها غلام طائش، مثل أيام الجاهلية، وما كان يدور فيها من حروب تستغرق سنوات عديدة لأسباب واهية، وغير منطقية؟
ولعل الإجابة تكمن في تصريح أحد قادة أمل عن سبب اندلاع الحرب في 21 مايو/أيار 1985م، فكان مما قاله: «إن الفلسطينيين يريدون أن يستعيدوا حرية العمل التي كانت لهم قبل الاجتياح الإسرائيلي، ورأت أمل أنهم يجلبون الأسلحة، وعندها بدأ القتال».
وكانت أمل قد رفضت قبل أسبوعين من اندلاع المعارك ورقة عمل عرضتها جبهة الإنقاذ الفلسطينية على نبيه بري، وتنص هذه الورقة على أن تتولى الجبهة أمن المخيمات.
ولا شك أن مصالح أمل تلاقت مع مصلحة إسرائيل في تصفية مخيمات الفلسطينيين في لبنان، فقد قالت صحيفة «جوراليزم بوست» في عددها الصادر بتاريخ 23 مايو/أيار 1985م: «إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل».
لقد كانت «حرب المخيمات» حربًا ضروس أكلت الأخضر واليابس وحصدت أرواح المئات من الشهداء من مختلف الفصائل الفلسطينية ومن عامة الناس، وقد امتدت وعلى تقطع لفترات زمنية طويلة، وانتهت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى نهاية العام 1987م، وقد فشلت حركة أمل في اقتلاع الوجود العسكري والتنظيمي لقوى المقاومة الفلسطينية وفصائلها في لبنان، كما خسرت كذلك جسمها العسكري الذي تحطم على أرض المخيمات الفلسطينية بالرغم من الهجمات المتكررة التي قامت بها قوات حركة أمل على امتداد زمن تلك الحرب والدعم اللوجستي الهائل الذي قُدم لها من أجل إنجاز مهمتها في القضاء على المخيمات الفلسطينية.
كانت تلك الحرب بالفعل من أصعب الحروب التي شُنّت على الفلسطينيين في الشتات، وقد فاقت في خسائرها كل جولات القتال والاقتتال التي وقعت في عموم الأرض اللبنانية منذ انفجار الحرب الأهلية عام 1975م.
المصدر: إضاءات